من خلف الكواليس، حيث كان يجلس، دخل مبعوث الجامعة العربية السابق (نهاية الثمانينيات) إلى لبنان، الأخضر الإبراهيمي، إلى مسرح الأونيسكو. مشى الرجل التسعيني بخطى متثاقلةمتّكئاً على عكّاز. لم تتغيّر ملامح الإبراهيمي المُبتعد منذ سنوات، وإن ازدادت التجاعيد على وجهه المُتعَب. يُشبه الدبلوماسي الجزائري إلى حد بعيد اتفاق الطائف المنسيّ منذ عقود؛ بعد 33 عاماً، تستحضر السعوديّة الاتفاق والإبراهيمي معاً لتُعيد التسويق لـ«منتجها» الذي يكاد يكون الوحيد في السوق الإقليميّة.صحوة المملكة لمسح الغبار عن الاتفاق لا تعني بالضرورة أهميّته بالنسبة إليها. فهي، على مدى 32 عاماً، لم تقم عراضات له ولا هبّت يوماً لانتشاله حينما كان يُدفن على مرمى حجرٍ منها، ولا حتى منعت نفسها من المشاركة في ذلك. ودعوة سفيرها في لبنان وليد البخاري إلى «كرنفال استعراضي» لا تمحو ذاكرة لا تزال طرية بارتكابات بلاده بحق الطائف. وهذا ما لمّح إليه الإبراهيمي أساساً في مقابلة تلفزيونية أول من أمس عندما قال إنّ اللجنة السباعيّة جرى استبدالها بلجنة ثلاثية عام 1988 (السعودية والمغرب والجزائر)، مشيراً إلى أن «رؤساء الدول الثلاث كانوا يريدون تمديد مهمتهم بهدف مواكبة تنفيذ الاتفاق، لكن حرب الكويت ألغت هذا القرار».

(هيثم الموسوي)

ما قاله الإبراهيمي مواربة مدوّن في الأرشيف. إذ إنّ السعودية هي التي لزّمت الملف اللبناني، ومن ضمنه تطبيق اتفاق الطائف، إلى سوريا جائزة ترضية مقابل مشاركة القوات السوريّة في حرب «عاصفة الصحراء»، أما ما ارتكبه المسؤولون السوريون الذين كانوا مكلّفين الملف اللبناني في حق الاتفاق فقد كان كله على مرأى من العيون السعوديّة!
هذا ما يؤكّد أنّ خدعة استحضار الطائف ليست إلا لزيادة الشرخ الداخلي، ولتوجيه رسالة إلى الغرب، ولهذا أصرّ البخاري على أن يكون الحديث على مسمع الدبلوماسيين الذين حضروا كـ«شهود»، تتقدمهم المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونتيسكا التي جلست على مسرح «الأونيسكو».
على هذا المسرح، كان البُخاري مُباشراً. لم يدخل في الزواريب عندما سُئل عن هدف اللقاء وعما يُحكى عن مبادرات دوليّة جديدة لإطلاق حوار لبناني - لبناني؛ استقام السفير في جلسته على الكرسي الأبيض وأرخى بعباءته المزخرفة بخيوط ذهبيّة، ليتحدّث بثقة باسم... الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. الجملة الأهم التي كان البخاري يريد قولها على الملأ ودعا من أجلها المئات: «ماكرون أكّد لنا أن لا نية فرنسيّة لدعوة (اللبنانيين) إلى نقاش (في بنود) الطائف أو تعديل الدستور. وهذا موقف نهائي ونطمئن الجميع بذلك».
رسالةٌ مبطّنة بالتهديد أرادت السعوديّة توجيهها إلى المجتمع الدولي، بعدما ربط سفيرها الطائف بأمن لبنان واستقراره وأن «البديل سيكون الذهاب باتجاه المجهول».
الاستنفار السعودي النابع من دعوة السفارة السويسريّة إلى مؤتمر حواري لبناني، سبقته موافقة فرنسيّة عبّر عنها ماكرون في زيارته الأخيرة للبنان حينما قال إن لبنان بات يحتاج إلى عقد اجتماعي جديد، يُضاف إليهما «تدهور» العلاقات الأميركية - السعوديّة، أدركه الغرب جيّداً. ولذلك، كان مفهوماً غياب السفيرة الفرنسيّة آن غريو عن المؤتمر ومعها السفيرة الأميركيّة دوروثي شيا التي «اخترعت»، لتبرير غيابها، حدثاً رياضياً بعنوان «الرياضة الأميركيّة - اللبنانيّة» في الجامعة اللبنانية الأميركية.

جيشٌ سياسي
التهليل السعودي للطائف بعد 33 عاماً على توقيعه تُريد الرياض «تقريشه» سياسياً في حال حان موعد التسوية، رغم أن قرار عودتها إلى السّاحة اللبنانيّة لم يُحسم بعد. تبدو المملكة مقتنعة بأنّ كل الذين تفتح لهم أبواب سفارتها صاروا بيادق في يدها، وأن بإمكانها أن تُساوم عليهم في أي لحظة إقليميّة؛ البعض متيقّن أنّ هذا «الجيش السياسي» الذي تعمل السعوديّة على بنائه صورياً هو «الحيلة والفتيلة» لبيْعه في الأسواق الخارجيّة. وبالتالي، كان الـ«كرنفال» مناسبة لإظهار قوّة مزيّفة ركّزت فيها السفارة على قدرتها على استقطاب القوى المسيحيّة تحت عباءتها. وهؤلاء لم يأتوا إلى «الأونيسكو» لتأدية فروض الطاعة المستجدّة للطائف، وإنّما بعنوان «نكاية بحزب الله»، على اعتبار أنّه العنوان الوحيد الذي يجمعهم بالمملكة. وهذا أيضاً ما تحفظه الرياض عن ظهر قلب، لذلك دعت كل القوى السياسيّة، باستثناء حزب الله، وركّزت على الشخصيات المسيحيّة من الصف الأوّل، ولم تستثن أحداً... حتى الياس عطا الله!
فيما غاب التمثيل الشيعي تماماً، إلا إذا كانت السعودية مقتنعة فعلاً بأن المدعو عباس الجوهري الذي نال 658 صوتاً في الانتخابات النيابيّة الأخيرة هو من يمثّل الشيعة في لبنان، ولذلك «ميّزت» العمامة التي يعتمرها بمقعدٍ أمامي وكادت تُجلسه إلى جانب الرؤساء وممثليهم!
بهذا المعنى، يصحّ في كرنفال البخاري القول بأن السحر انقلب على الساحر. فاستثناء حزب الله وكونه المستهدف الأساس من هذه «التجميعة» أدّى إلى غياب «الميثاقية» التي أراد السفير (الذي لا يتدخل في شؤون لبنان؟) أن يضفيها على المشهدية: هكذا لم يجد البخاري شخصية شيعيّة يُجلسها على المسرح إلى جانب الرئيس السني فؤاد السنيورة والزعيم الدرزي وليد جنبلاط وممثل البطريركية المارونيّة المطران بولس مطر، وذلك بعدما أربك اعتذار الرئيس حسين الحسيني عن عدم الحضور «لأسباب صحية»، فيما تشير معلومات إلى أن الأخير «يرفض إعطاء صك براءة لبعض الشخصيات والدول لتكون أمّاً وأباً للطائف». وليكتمل «النقل بالزعرور»، فإن الرئيس نبيه بري تقصّد على الأغلب أن يمثّله نائب سنّي هو عبد الكريم كبّارة بدلاً من شخصيّة شيعية، رغم أن النائبة عناية عز الدين كانت بين الحاضرين.
الغياب الشيعي لم يغيّب هزال الحضور السنّي. ورغم دعوة البخاري «كل من هبّ ودبّ» من الشخصيات السنية، بدا الـ«كرنفال» خالياً من الحضور السني الوازن في غياب الرئيس سعد الحريري وما يمثله من رمزية في الطائف، وهو ما أكده التصفيق الحار كلّما ذكر اسم الحريري الأب أو ظهرت صورته على الشاشة خلال الإعداد لفيديو عمّا قبل اتفاق الطائف وما بعده.
كوكتيل طائفي وسياسي ناقص وحفلة علاقات عامة من دون نتيجة


وبدا واضحاً أنّ البُخاري حاول «زرك» الحريري بدعوة شخصيات قريبة منه كعمّته بهية الحريري (التي بررت غيابها بانشغالها بزيارة سياسيّة) وعمّه شفيق الحريري (الذي أُجلس في المقاعد الأمامية)، ورئيس جمعية بيروت للتنمية أحمد هاشمية الذي كان أوّل الخارجين من المؤتمر. فيما سار «رفّ» من النواب المستقبليين القدامى خلف السنيورة.
وكان لافتاً حضور ممثلي التيار الوطني الحر (سليم جريصاتي وسيزار أبي خليل) اللذين جلسا في الصف الأمامي، ما أثار استهجان بعض جمهور تيار المستقبل على وسائل التواصل الاجتماعي لتغييب رئيسهم وحضور خصومه و«خصوم الطائف».
حضور التيار خطف الأنظار عن دعوة النائب السابق سليمان فرنجيّة الذي جلس في المقعد الأمامي، فيما جلس مرشّح حلفاء السعوديّة النائب ميشال معوّض في الخلف، ليبدو أن رماديّة الرياض في التعامل مع ترشيح فرنجية لرئاسة الجمهورية لا تزال على حالها.
هذه الرماديّة كاد أن يطيحها تصريح جنبلاط على باب الأونيسكو وعلى بُعد أمتار قليلة بقوله «إنّه لا يقبل بأن يكون فرنجيّة رئيساً للجمهوريّة». جنبلاط الذي جلس على مسرح الأونيسكو مستعيداً محطات تاريخيّة أدّت إلى ولادة اتفاق الطائف، كان يوجّه الرسائل المبطّنة بتأكيده أنه يرفض وضعه بالسلة مع جميع الشخصيات السياسية على قاعدة «كلن يعني كلن»، قبل أن يعلن مسؤولية قواته عن قصف مقر إقامة اللجنة الثلاثية في فندق البستان، ويقدّم اعتذاراً علنياً عن ذلك.



حفلة PR
لم تترك السفارة السعوديّة شخصيّة تعمل في الشأن العام أو «الشؤون الخاصة» وتدور في فلكها إلا دعتها إلى مؤتمر إحياء الذكرى الـ 33 لتوقيع اتفاق الطائف، حتى بدا المؤتمر أشبه بمؤتمر علاقات عامّة. بعضهم لم يكن مهتماً بالدخول أصلاً إلى القاعة بقدر اهتمامه بجلسات تصوير أمام اللافتة المعلّقة بالقرب من باب مسرح «الأونيسكو». فيما آخرون فضّلوا البقاء خارجاً للاستمتاع بـ«خيرات» المملكة من المأكولات والمشروبات. المنبطحون بالمئات انتظروا في الخارج والداخل طويلاً تدقيق أمن السفارة السعوديّة في دعواتهم قبل السماح لهم بالدخول. وفي الداخل، انتظر البعض طويلاً إلى جانب المسرح قبل أن «يظهر» البخاري ليطبع قبلاته على وجناتهم، ككمال شاتيلا الذي أصرّ على أن يجد له منظّمو الحفل مقعداً أمامياً، وإلى جانبه إبراهيم منيمنة وملحم خلف، فيما كان سلامه عابراً على وضاح الصادق الذي جلس في المقعد الأمامي. ولم يهزّ أشرف ريفي الذي جلس في المقعد الثالث نفسه عند مرور البخاري من دون أن يلقي عليه التحيّة.


«زيارة اعتذار» إلى الفاعور
إلغاء السفير السعودي وليد البخاري زيارته إلى بلدة الفاعور الأسبوع الماضي، في اللحظات الأخيرة رغم وصوله إلى مدخلها، لا تزال تتفاعل. ويجري مقربون من السفارة السعودية اتصالات مع وجهاء العشائر لإقناعهم بأن حواجز المحبّة التي أقاموها على مقربة من الخيمة التي خصصت لاستقبال البخاري والخيول التي أتوا بها وفرقة الزفة، كلها أخافت الفريق الأمني التابع للسفارة فنصح السفير بإلغاء الزيارة.
بالنسبة إلى العشائر، لا شيء ممّا قام به شبّان العرب يثير الريبة، إذ إن «هذا ما فعلوه في استقبال كثير من الشخصيات السياسيّة اللبنانية والعربية»، موضحين أن «البخاري كان قد أرسل قبل وصوله إلى المنطقة موكباً كشافاً ووفداً سعودياً نسّق مع الوجهاء كيفيّة دخوله إلى الخيمة وسط الزحمة بعدما أكد 5 مشايخ أنهم سيستقبلونه أمام الموكب وسيفتحون الطريق أمامه».
وتشير معلومات «الأخبار» إلى أن أحد كبار الموظفين في السفارة السعوديّة يتولى الاتصال ببعض وجهاء العشائر التي فوّضت الأمر إلى النائب محمد سليمان، في حين أن البخاري لم يتصل شخصياً بهم بعد. ونجح هذا التواصل في تذليل العقبات بعدما نقل الموظف أن «البُخاري لم يقصد أبداً إرجاء الزيارة بدليل وصوله إلى الفاعور». فيما رفضت العشائر طرحاً بزيارة يقوم بها وجهاؤهم إلى السفارة السعودية، مشترطين أن تسبقها زيارة السفير إلى بلدتهم.
وعليه، يُرتّب الطرفان لزيارة هي أقرب إلى زيارة اعتذار سيقوم بها البخاري إلى العشائر في الفاعور لم يحدد موعدها بعد، ويتوقع أن يتلقّى سليمان اتصالاً من البخاري في اليومين المقبلين للاتفاق على الموعد النهائي للزيارة.
وكانت لافتة زيارة رئيس جمعية بيروت للتنمية الاجتماعية أحمد هاشمية إلى الفاعور بعد ساعات قليلة من إلغاء البخاري لزيارته. وإذا كان البعض اعتبر أن هدف الزيارة هو «كب الزيت على النار» لا سيما أن علاقته متوترة مع المملكة، فإن المصادر تؤكد أن هاشمية من الذين عملوا على تهدئة النفوس بسبب قربه من بعض الوجهاء، من دون أن تُعرف أهداف خطوته.
(الأخبار)


مقاطعة سعد غير مجدية
يواجه السفير السعودي في بيروت وليد البخاري برودة من معظم الشخصيات والقيادات المنتمية الى تيار المستقبل ممن يتعاطون معه في اللقاءات والاتصالات من باب اللياقات فقط. فيما لم يوفق السفير السعودي بعدد من الناشطين الذين يخرجون على الجمهور من خلال برامج مسبقة الدفع عبر مواقع ومحطات إعلامية، إذ غالباً ما يترك هؤلاء انطباعاً سلبياً لدى أنصار التيار الأزرق.
ونقل عن مرجعية دينية في بيروت أن أحد أسباب التوتر الذي تتسم به حركة السفير السعودي في الفترة الأخيرة، يعود إلى نتائج استطلاع للرأي العام في الطائفة السنية في لبنان بعد الانتخابات النيابية، أظهرت أن الرئيس سعد الحريري لا يزال يحتل المرتبة الأولى سنياً، ويتقدم كثيراً على من يأتون خلفه. كما أظهر الاستطلاع أن الشخصيات السنية القريبة من السعودية لا تتميز بفارق عن الشخصيات السنية القريبة من فريق 8 آذار. وقال مطلعون إن السفير السعودي تلقى نصيحة بأن يتولى شخصياً التواصل مع الجمعيات الأهلية في المناطق لتوزيع المساعدات وليس عبر شخصيات محلية، كما نصحه سفراء في بيروت بالانفتاح على كل النواب والقوى السنية بما فيها الشخصيات التي ترتبط بعلاقة مع حزب الله.
وقد كان لافتاً غياب النائبة السابقة بهية الحريري عن مؤتمر الأونيسكو، السبت، واقتصار تمثيل العائلة على رجل الأعمال شفيق الحريري الذي لا يقوم بأي دور سياسي، وكذلك استثناء عدد من القيادات والنواب السابقين، ومنهم النائب البقاعي عاصم عراجي الذي غرد مستنكراً الإبعاد والاتكال على منتفعين.