استغرق الأمر أياماً قليلة ليَثبُت أن «جرف» العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة لم يكن «صلباً» إلى الحد الذي روّج له العدو، وسعى إلى حفره في الوعي العام الفلسطيني والعربي. فأكثر من أي شيء آخر، جاء تلقف تل أبيب لمبادرة الحكومة المصرية بشأن وقف إطلاق النار ليعكس مأزق الحرب على قطاع غزة، مع العلم بأن بنود المبادرة وطبيعة الاتصالات تتكامل مع أهداف العدوان الإسرائيلي، خصوصاً لجهة حرمان المقاومة الفلسطينية من تحقيق أي إنجازات تحت ضغط الميدان.
المفاجأة لم تتوقف عند البرودة المصرية في التعامل مع العدوان، وفي عدم فتح معبر رفح، بل كانت قاسية من خلال هذه المبادرة التي تهدف عملياً الى وضع المقاومة الفلسطينية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما القبول بالمباردة المصرية، وتمتنع عن تثمير صمودها الميداني عبر تحقيق الحد الأدنى من مطالبها برفع الحصار وتحرير الأسرى، أو رفضها، وبالتالي تحميل المقاومة مسؤولية استمرار الحرب، علماً بأن مجرد طرح المبادرة، وبالطريقة التي تمت فيها، أرضى العدو الذي يعمل على استمرار التباعد بين القاهرة وغزة.

مبادرة فتصعيد

ما كادت وزارة الخارجية المصرية تعلن اقتراح وقف النار ليل الاثنين ــ الثلاثاء، حتى تداعى المجلس الوزاري الأمني المصغر في إسرائيل إلى الاجتماع والمصادقة على تبنّيها، والمبادرة الى تنفيذ وقفٍ أحادي الجانب لإطلاق النار بدءاً من التاسعة صباحاً، مقابل تريّث فلسطيني في حسم الموقف من اقتراح القاهرة.
وهكذا، «لحست» إسرائيل في غضون ساعات قليلة كل المواقف التصعيدية التي هوّلت بها على مدى الأيام الماضية، وانكفأت بين ليلة وضحاها إلى المعادلة الأولى التي قبلت بها عشية العدوان، وفحواها «الهدوء سيقابل بالهدوء». جاء ذلك بعد أن كان القادة الإسرائيليون رفعوا سقف أهداف العدوان على قطاع غزة إلى حدود عليا، وتحدثوا عن استمرار العدوان حتى توجيه ضربة قاسية «للمنظمات الإرهابية» واستعادة الردع في إطار استعادة الهدوء.

إسرائيل فقط
تقبل مبادرة القاهرة وفصائل المقاومة تتوحّد


لكن المأزق الإسرائيلي دفع الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل للمسارعة إلى توسل السلم المصري للنزول عن شجرة التورط بمواصلة التصعيد حتى بثمن التنازل عن اعتبارات شكلية وجوهرية: فلا هي أفلحت في تحقيق صورة انتصار أمام الرأي العام، ولا في فرض الهدوء، ولا تمكنت من ترميم الردع المتهاوي أمام استمرار الصليات الصاروخية للمقاومة الفلسطينية التي واصلت استهداف العمق الإسرائيلي على مختلف الأمداء.
وهكذا، على وقع تساقط الصواريخ الفلسطينية ودوي صفارات الإنذار التي غطت أرجاء إسرائيل قاطبة، بقيت إسرائيل ملتزمة بوقف النار الأحادي الجانب لأكثر من خمس ساعات على أمل أن توافق المقاومة الفلسطينية على الاقتراح المصري، وهو الأمر الذي لم يحصل، فكان أن انهار وقف النار بالسرعة التي وُلِد فيها، واضعاً إسرائيل أمام استحقاقات سياسية وعسكرية.

أميركا وتركيا وقطر

وبينما كانت القاهرة تسعى للحصول على «تفويض حصري» في إدارة المفاوضات، واصلت سلطات قطر وتركيا التواصل مع الاميركيين والاوروبيين لأجل الحصول على باب لوساطة مثمرة مع الاسرائيليين. لكن عقبة مصر تحتاج من جانب الدوحة وأنقرة الى دعم فلسطيني غير متوافر. وإذ علمت «الأخبار» أن مقترحاًَ تقدم به أحد الوسطاء لعقد لقاء فلسطيني في الدوحة لرسم استراتيجية التفاوض، بعثت جهات نافذة في غزة برسالة الى القاهرة تؤكد على أولوية الدور المصري، لكنها تطلب عدم ربط هذه المفاوضات بالازمة القائمة بين القاهرة وحماس.
وكان القطريون، كما الاتراك، حصلوا على تفويض ضمني من قيادة حركة حماس لإجراء اتصالات بالاوروبيين والاميركيين من اجل دفع اسرائيل نحو تسوية بأثمان. وهو أمر رفضته اسرائيل التي أبلغت الولايات المتحدة أنها لا تريد قناة اخرى غير القاهرة، علماً بأنه جرى التداول بمبادرة اوروبية خاصة تجاه قطاع غزة، تقوم على مبدأ مقايضة الاستقرار والاعمار وفك العزلة والحصار بسلاح المقاومة والخضوع للسلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس.
وأبدت مصادر متابعة خشيتها من «وقوع الفلسطينيين، شعباً ومقاومة، ضحية المزيد من التجاذبات العربية ــ العربية، في ظل صراع واضح بين الدوحة والقاهرة، وبتدخل تركي لمصلحة قطر في من يقود المفاوضات ويمارس الوصاية على المقاومة وعلى القطاع. وحتى إنه يوجد داخل قوى المقاومة نفسها من لا يريد أن تقع قيادة حماس تحت الضغط القطري ــ التركي، أو تحت ضغط حركة «الإخوان المسلمين»، وأن ترهن الموقف من الجاري في القطاع بمصالح تتجاوز المصالح المباشرة للمقاومة وللفلسطينيين.

خيبة إسرائيلية

إسرائيلياً كان البارز أمس ما كشفت عنه وسائل إعلام العدو من ان «المصريين نسقوا المبادرة مع تل أبيب، وهم أبلغوا الاسرائيليين، وبصورة مسبقة، أن حركة حماس لن توافق على الاقتراح وعلى وقف اطلاق النار، ومن هنا فإنهم ينوون عرض اقتراحهم على جامعة الدول العربية، لاستصدار بيان يتبناه».
وورد في القناة العاشرة أن «الخارجية المصرية أصدرت بيانها، المتضمن اقتراح وقف إطلاق النار، مع تقديرها وعلمها المسبق بأن حماس سترفضه». مع ذلك، تشير القناة الى أن «الاقتراح لم يمت بعد، وبالتالي فإن الحكومة الاسرائيلية ما زالت تتعامل معه بجدية، رغم كل التصريحات الصادرة بشأنه». وكشفت عن هوية الوفد الاسرائيلي للمفاوضات الذي يضم رئيس الشاباك يورام كوهين، ورئيس الدائرة السياسية والامنية في وزارة الدفاع اللواء عاموس غلعاد، المعروف بعلاقاته الجيدة مع الجانب المصري، إضافة الى مستشار رئيس الحكومة الاسرائيلية، يتسحاق ملوخو. أما بشأن خيبة العدو من عدم رضوخ المقاومة للتآمر السياسي بعد العجز عن إرضاخها بقوة النار، فإن هذه الخيبة لن تدفع العدو، أقله الآن، الى التورط في حرب برية، سوف تكون لها تداعيات كثيرة غير محسوبة.
رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو قال مساء أمس، في أعقاب الإعلان عن سقوط أكثر من 70 صاروخاً ومقتل أول إسرائيلي خلال المواجهة الحالية، إن «هذه لحظات ينبغي اتخاذ القرارات فيها ببرودة وطول نفس وليس بالتسرع والتصادم»، مشدداً في الوقت نفسه على أن «حماس ستدفع ثمن قرارها (مواصلة الحرب)، وعندما لا يكون هناك وقف للنار، فإن جوابنا هو النار».

فلسطينياً.. استمرار المقاومة

وإذ تبلغ مندوب حماس المقيم في القاهرة موسى أبو مرزوق بعض الاتصالات المصرية بشأن المبادرة، إلا أن القرار الذي اتخذته حماس تم إبلاغه من قبل رئيس المكتب السياسي خالد مشعل الموجود في الدوحة الى عدد من العواصم والقيادات، ويقوم على رفض المبادرة كما وردت، وأنه يفضل حصول مشاورات مكثفة مع قوى المقاومة الأخرى، ولا سيما حركة الجهاد الاسلامي. وهو اتصل لهذه الغاية بأمينها العام رمضان عبدالله، واتفقا على آلية تشاور بشأن الوضع عموماً والمبادرة المصرية خصوصاً.
وفي المواقف العلنية، أبلغت حركة الجهاد السلطات المصرية رفضها مبادرة التهدئة «لأنها لا تلبي حاجات الشعب الفلسطيني، وهي غير ملزمة لنا، وسرايا القدس ستواصل عملياتها جنباً إلى جنب مع كل الفصائل دفاعاً عن شعبنا في مواجهة العدوان».
أما «حماس» فقد أعلنت استمرار المشاورات، بينما سارعت كتائب القسام الى قصف مدن إسرائيلية مجدداً، كنوع من الرد العملي على المبادرة. كذلك أعلنت الكتائب أمس أنها أسقطت ثاني طائرة إسرائيلية بلا طيار في ساعتين، وذلك باستخدام قذيفة مضادة للطائرات، ما يرفع عدد طائرات الاستطلاع التي جرى إسقاطها منذ بداية الحرب على غزة إلى أربع.
ومن جانب رام الله، يزور الرئيس عباس مصر اليوم للقاء نظيره عبد الفتاح السيسي، قبل أن ينتقل الجمعة الى تركيا.

ردّ أوّلي

وفي الردود الاولية من جانب حماس وحركة الجهاد الاسلامي على المبادرة المصرية، تم التوافق على الآتي:
ــ التمسك بموقف موحد من المبادرة.
ــ رفض مبدأ فرض المبادرة، والطلب الى المصريين تقديمها بصورة رسمية ومن خلال القنوات المعروفة.
ــ اتخاذ تدبير استثنائي على الارض من خلال توحيد النشاط الصاروخي بين كتائب القسام وسرايا القدس.
ــ وضع سقف أساسي للمفاوضات، يقوم على رفض العودة الى اتفاق 2012.
ــ إبلاغ الجهات المعنية، فلسطينياً وعربياً، من حلفاء وأصدقاء، استعداد قوى المقاومة للاستمرار في مواجهة العدوان مهما كانت الاثمان.
وما لبث الهدوء النسبي في غزة أن امتد لساعات قليلة من بعد التاسعة صباحاً أمس (كما أقرّت المبادرة المصرية)، حتى عادت موجة الجنون الإسرائيلية لتكمل قصفها، هادمة نحو عشرين منزلاً عدا الاستهدافات للأراضي والاغتيالات المباشرة التي رفعت رصيد الشهداء إلى 195 و1400 مصاب حتى منتصف الليل.
أما المقاومة، فجددت قصفها على مدن تل أبيب والقدس المحتلة والمجدل وأسدود وبلدات أخرى بعشرات الصواريخ، فضلاً عن إمطار المواقع العسكرية الملاصقة لغزة بوابل من القذائف، فيما أعلن عن مقتل إسرائيلي خلال إحدى الهجمات الصاروخية.
(الأخبار)