كثيرة هي المواضيع التي تتحوّل حالياً في تركيا إلى مادّة للجدل الانتخابي. بعد الحجاب وحقوق العلويين، تأتي مسألة تغيير الأبجدية لتحتلّ صدارة المشهدَين السياسي والإعلامي، وسط اتّهامات مستمرّة لحزب «العدالة والتنمية» ورئيسه بحرْف النقاش نحو ما يفيدهما في الانتخابات الرئاسية، ومحاولة الاستثمار في هذه المسألة لاستمالة القاعدة الإسلامية، وكسْب أصواتها. ولئن جاءت غالبية التعليقات على مهاجمة رئيس كتلة الحزب في البرلمان «الثورة الثقافية الأتاتوركية»، على ألسنة القوميين الأتراك، فإن ما سعى مصطفى أونال لتسليط لضوء عليه، شكّل، على مدى عقود، معضلة حقيقية، لتسبُّبه بـ«محو لغتنا وأبجديتنا»، ونسف «فكرنا كلّه»، كما قال
ليست هذه المرّة الأولى التي تُثار فيها مسألة تغيير الأبجدية في تركيا من العربية العثمانية إلى اللاتينية، إذ إن هذه المسألة كانت تُعدّ، منذ عام 1928، من ركائز «الثورة الأتاتوركية»، إضافة مثلاً إلى قانون الأحوال الشخصية، واعتماد العلمَنة وتغيير الزيّ، وغير ذلك. لكن بطبيعة الحال، ما كان لـ«ثورة اللغة» أن تمرّ بسهولة، خصوصاً في ظلّ الآثار السلبية الكثيرة التي تركتْها، مِن مِثل عجز الجيل الجديد عن قراءة تراثه والاستفادة منه بشكل كامل. وعلى رغم مرور 94 عاماً على تلك «الثورة»، يتجدّد النقاش اليوم بشأن تحويل الحرف، في سياق الصراع المحتدم بين التيّارَين الإسلامي والعلماني. وفي هذا الإطار، أطلق مصطفى أونال، رئيس كتلة حزب «العدالة والتنمية» في البرلمان التركي، قبل أيّام، مواقف مثيرة للجدل لدى مشاركته في ندوة على هامش «معرض الكتاب والثقافة الدولي الثامن» في قهرمان مراش، حيث شنّ هجوماً لاذعاً على خطوات أتاتورك، معتبراً أن «الثورة الثقافية الأكثر قسوة في العالم حدثت في تركيا. إن هذه الثورة الثقافية محت لغتنا وأبجديتنا، وفي الحاصل فكرنا كلّه». وحمّل الحرف اللاتيني الجديد مسؤولية كبرى، بقوله: «(إننا) في اللغة التركية التي نتحدّث بها اليوم، لا نستطيع أن نُنتج فكراً، بل نواجه فقط احتياجاتنا». وأضاف أن «الثورات الكبرى في العالم لم تمدّ يدها إلى اللغة. الثورة الفرنسية دمّرت كلّ شيء لكنها لم تغيّر الأبجدية، وثورة ماو تسي تونغ في الصين لم تمسّ اللغة الصينية، في حين فعلت الجمهورية التركية ذلك وغيّرت الحرف كأحد مظاهر الجمهورية». وأعطى أونال مثالاً على مساوئ تحويل الأبجدية بأن «كلمات متعدّدة كانت مستخدَمة في العثمانية، مِن مِثل: انكسار وحزن وكدر، تُستخدم مقابلها الآن كلمة واحدة هي توتّر (stres)، بينما لكلّ منها معنًى مختلف عن الآخر».
وأثارت مواقف أونال تلك، ردود فعل واسعة، من بينها اعتبار زعيم «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، كمال كيليتشدار أوغلو، أونال، أن «مِثل هذه العقلية تريد تدمير الجمهورية وإقامة دولة عاصمتها إسطنبول وأبجديّتها العربية. مِثل هذا الشخص يحتقر اللغة التركية ويستخفّ بها». لكنّ المفاجأة أن زعيم حزب «الحركة القومية»، المتحالف مع «العدالة والتنمية» انتقد أيضاً أونال، قائلاً إن مواقفه «تنمّ عن جهل وسوء، وتُلحق الضرر بثقافة الجمهورية ولغتها وفكرها»، وإن «اتّهامه اللغة التركية الحديثة بأنها لا تُنتج فكراً، مخالف للحقائق التاريخية وللتطوّرات البنيوية». ولم تقتصر الردود على الأوساط السياسية والحزبية، بل امتدّت إلى تلك الإعلامية والفكرية، حيث رأى الكاتب المعروف، مراد يتكين، أن أونال «لا يستطيع أن يستهدف الجمهورية مباشرةً، فلجأ إلى استهداف ثورة الحرف، لكنه يفعل ذلك في مرحلة التحضير للانتخابات الرئاسية والنيابية في حزيران المقبل»، معتبراً ذلك «مجرّد ورقة انتخابية يُراد منها إثارة ردود فعل ونقل النقاش إلى مجالات أخرى يستفيد منها الرئيس رجب طيب إردوغان، الذي يعرف جيّداً أن الانتقال إلى الحرف العربي سيكون وعداً انتخابياً غير قابل للتحقّق». ويلفت يتكين إلى أن «غالبية الدول التركية قد انتقلت إلى الأبجدية اللاتينية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، من كازاخستان إلى أذربيجان وأوزبكستان بعدما كانت تعتمد الأبجدية الكيريلية وليس العربية. وبالتالي، فإن العمل على إثارة الأبجدية العربية الآن هو استهلاك انتخابي من أجل شدّ عصب القاعدة الإسلامية مِن حَول حزب العدالة والتنمية وإردوغان».
رئيس كتلة «العدالة والتنمية» البرلمانية: الثورة الثقافية الأكثر قسوة في العالم حدثت في تركيا


وفي الاتّجاه نفسه، كتب عصمت بركان، في صحيفة «قرار»، أنه «لا خلاف على أن تغيير الحرف كان يمكن ألّا يحدث، وبقاء الحرف القديم لم يكن ليمنع التقدّم كما تفعل اليابان أو إيران أو الهند. لكنّ الهدف كان مَحو الأمّية التي كانت منتشرة، وقد تحقَّق هذا الهدف ولا معنى الآن من إثارة المسألة، سوى أنها متعمّدة». ورأى بركان أن «عدم استخدام كلمات مِثل التي أعطاها أونال نموذجاً، لم يكن بسبب تغيير الحرف، هي كلمات موجودة في الحرف الجديد لكنّ الناس مع الوقت يهملون الكثير منها. ولو كانت الأبجدية العربية مستمرّة، لكان الناس أهملوا تلك التعابير كذلك، تماماً ككلمة الوباء بالتركية (salgın)، التي يُستخدم الآن تعبير pandemi بدلاً منها». أمّا رحمي طوران، في صحيفة «سوزجي» المعارضة، فرأى أن «قائل هذا الكلام (ماهر أونال) للأسف يحتقر اللغة التركية ومعادٍ للجمهورية، وهو من المَدافع الثقيلة في حزب العدالة والتنمية»، ناقلاً عن عن رئيس «الحزب الصحيح»، رفعت سردار أوغلو، قوله: «هل يمكن أن يصدّق أحد أن حزباً (العدالة والتنمية) هدفه هدْم الجمهورية العلمانية والديموقراطية يرغب في إجراء انتخابات شفّافة وعادلة؟». وذكّر طوران بكلام المؤرّخ سنان ميدان عن أن «أونال يضلّل الأمّة بمعلوماته، وهذا جرم يعاقب عليه القانون»، وأن «نسبة الذين يقرأون ويكتبون في تركيا العثمانية لم تكن تتجاوز الـ10% بين الرجال و1% بين النساء، ولم تكن توجد مدارس في 37 ألفاً من أصل 40 ألف قرية. وبعد 94 عاماً على ثورة الحرف تجاوزت نسبة مَن يعرف الكتابة والقراءة الـ90%. ثورة أتاتورك حملت التنوير والحضارة للبلد، ولو كان أونال يَعرف جيّداً تاريخ الجمهورية لَمَا كان ليتحدّث على هذا النحو».
وفي الصحيفة نفسها، لفت أمين تشولاشان إلى أن أونال مسؤول رفيع في حزب «العدالة والتنمية»، وما يقوله يُلزم الحزب، معتبراً أن المتحدّث «بهذه الكلمات يستهدف النظام الجمهوري والثورات التي جاء بها. ومِثل هؤلاء كان يجب أن يحسبوا كلماتهم قبل أن تَخرج من ألسنتهم حتى لا يضطرّوا إلى التراجع». ورأى أن أونال «لا يعرف شيئاً عن العالم ولا عن تركيا»، مشيراً إلى أن اللغة العثمانية «خليط من العربية والفارسية والتركية، ولم تكن لغة الأتراك، ولم تكن لغة كُتبها مفهومة من أحد. مَن يدعو إلى العودة من اللغة التركية الحالية إلى العربية أو الفارسية هو جاهل، ويريدنا أن نعود جاهلين. لكن تلك العصور مرّت منذ زمن طويل».
على أن اللافت هو أن تعليقات الكتّاب المؤيّدين لحزب «العدالة والتنمية» لم تتضمّن دفاعاً مستميتاً عن أونال، بل ثمّة مَن رأى مِن بينهم أن هذا النقاش ليس في أوانه. ووصف أنغين أرديتش، في صحيفة «صباح» الموالية، كلام أونال بأنه «صحيح ومحقّ. لكن يجب أن يُستتبع بالسؤال: هل كان ممكناً حينها غير ذلك؟»، مضيفاً أن «اليونان مثلاً قامت بالتنمية والتصنيع ودخلت الاتحاد الأوروبي بأبجديتها القديمة. لكن هل يمكن لنا العودة إلى أبجدية الأتراك القديمة "غوك تورك"؟ بالطبع لا». ولذلك، دعا أردينتش إلى طيّ هذه الصفحة لأن «الحصان قد مرّ في اسكودار» (أي فات الأوان).