جلست صبية في مقدمة «بيك أب» مع طفليها، تنتظر أن ينجز زوجها مطابقة بياناتها لدى اللجنة الأمنية المكلفة بالتدقيق باللوائح الاسمية للراغبين بالعودة إلى سوريا. طوال ساعات الانتظار الأربعة، لم تجفّ دموع ابنة الـ27 سنة. فهي عائدة برفقة سائق سيقلّها من خيمتها في أحد مخيمات عرسال، إلى يبرود في المقلب الآخر من الجبل المقابل. تغادر من دون زوجها الذي «لديه ملف أمني يمنعه من العودة». لا تعلم متى ستلتقي به مجدداً، لكن «السلطة الأبوية» قرّرت بأنه من الأفضل لها أن تعود إلى يبرود لتسكن في ظروف أفضل مع والدَيْ زوجها في منزلهما في يبرود لترعاهما. هي تترك أيضاً في عرسال والدَيها وإخوتها الذين لا يستطيعون العودة بدورهم. إخوتها الذكور أتمّوا سن الخدمة الإلزامية في الجيش السوري، فيما فقد والدها منزله وأرضه في مسقط رأسه القصير.تغرق الصبية في نحيبها الصامت، وسط بحر من الأثاث والحاجيات على اختلاف أنواعها. حمل العائدون كلّ ما يملكونه معهم. حتى شتول الزينة وأقفاص طيور الحب. منهم من اصطحب ديكه ودجاجاته، ومنهم من استأجر حافلة لنقل مواشيه. أثقلت الآليات بخزّانات المياه وأوعية مملوءة بالبنزين والمازوت وعدد كبير من ربطات الخبز.

اطمئنان غير كامل
يظنّ البعض بأن المعيشة في بلداتهم ستكون متعثرة، بعد غياب سنوات، لا سيما في ظل انقطاع الحاجيات الضرورية كالكهرباء والوقود. تقييم الأساسيات كان نسبياً في باحة العودة، كالجرار الزراعي. لا يزال أبو حمزة (35 سنة) محتفظاً بنمرة جرّاره بعد تسعة أعوام من نزوحه إلى عرسال من بلدته قارة. لم يكن نزوحاً صعباً، بل انتقالاً اعتيادياً بين جانبَيْ الجبل عبر حقول الكرز. في بلدته، كان يزرع الكرز في أرضه المتداخلة مع أراضي جيرانه العراسلة. فانتقل بجرّاره ليهتم بأرضه من الناحية اللبنانية. ما سيضاف بعد عودته أنه سيتمكن من زراعة أراض أخرى له تقع في عمق البلدة تحت سيطرة الجيش السوري. قرار العودة كان سهلاً لديه كقرار النزوح. «مدارس عرسال وجوارها رفضوا تسجيل طفلي في عامه الدراسي الأول». لم يحتمل سماع عبارة «ما عنا مطارح». سريعاً، سجّل اسمه في أول قافلة للعودة لتسجيله في المدارس السورية. جرّاره الحموي واكبه جرّار دمشقي وآخر حمصي، لم يتوقف هديرها طوال سنوات النزوح.
جميع التسهيلات السورية التي أعلن عنها الأمن العام للنازحين، لم تقنع أبو شحادة. حضر أمس إلى وادي حميد ليودّع بعض أقاربه العائدين وليرسل سيارة والده التي كان قد استخدمها هنا. لا يزال بمنأى عن قرار العودة «ليس لأني مطلوب للنظام، بل لأن العيشة هنا أفضل». المقيم في شقة في عرسال، يملك محلاً لبيع الألبسة منذ نزوحه قبل تسع سنوات من فليطا. «رغم الأزمات، بعدو هون أفضل من هنيك. تجد مازوت وغاز وحطب على الأقلّ». لكنه سرعان ما يقرّ بأن السبب الرئيسي الذي يمنع العودة، إصرار النظام على عدم إلغاء الخدمة الإلزامية في الجيش.
على طريق القوافل، انتظر صبية مرور الحافلة التي تقلّ صديقهم الذي قرّر أهله العودة. جميعهم ولدوا ونشأوا في عرسال. لا يعرفون مسقط رأسهم في رأس المعرة و الجراجير و النبك والمشرفة وجاراتها. يرتبكون أمام أسئلة الكبار: «متى ستعودون؟. هل تريدون العودة؟...». لا إجابة يمكن انتزاعها من أجسادهم النحيلة ووجوههم الصفراء وأقدامهم شبه الحافية ولباسهم الخفيف مع برد الفجر.

نازحو حرب لا نازحي جوع
قبلة العائدين كانت المحامية رنا رمضان، المكلفة بالتنسيق بين نازحي عرسال وبين وزارة المهجرين والأمن العام. تأبطت اللوائح الاسمية للعائدين. هي نفسها لن تعود الآن لتنهي نزوحاً بدأ عام 2014 مع زوجها الطبيب إلى عرسال. راجعها كثر بعدما سقطت أسماؤهم من لائحة العودة. «لن ينزل أحد من هنا إلا بثقة وضمانة الأمن العام»، تطمئن الخائفين مما ينتظرهم. أما عن سبب العودة الخجولة، فتعيدها إلى أن «فكرة الاطمئنان لم تستوِ بعد لدى الغالبية، فضلاً عن الوضع الاقتصادي في سوريا». لكنها تؤكد بأن الأكثرية ستعود تباعاً. «هم نازحو حرب وليسوا نازحي جوع».

يا رايح كثر الملايح
لم يبذل الجندي جهداً في ضبط ملامح الفرح على وجهه، وهو يقفل حاجز وادي حميد خلف آخر آلية غادرت عرسال باتجاه بلدات القلمون الغربي السورية. تفضح لهجته البعلبكية وهو يدقق بأوراق العابرين، موقفه الخاص من نازحي عرسال. قد يكون ممن يتهمونهم بالإرهاب بسبب إيوائهم لمجموعات «الثورة السورية» التي قاتلت الجيش اللبناني وأسرت وأعدمت عدداً من جنوده في معركة عرسال قبل 8 سنوات. قبالته، ينظر زميله بحسرة إلى وجوه العابرين، لا سيما الأطفال المكدسة بين الحاجيات المنقولة. «الله لا يجرّبنا» تنهد بحرقة مصحوبة بالهواء البارد الذي لفّ المتجمعين في الباحة منذ الفجر.
السبب الرئيسي الذي يمنع العودة عدم إلغاء الخدمة الإلزامية في الجيش


تباين مشاعر الجنديين يعكس تباين مواقف العراسلة من ضيوفهم. منهم من أبدى ارتياحاً لمغادرة النازحين ومنهم من اعتبر بأن العودة ستبقى رمزية. «فلا نحن ولا هم نستغني عن بعضنا البعض». من شرفة منزلها، راقبت ابتسام منذ الفجر مراسم العودة. لم تخف فرحها بقرب تقلّص أعداد المخيمات التي تحيط بمنزلها من كل جانب. «انظري إلى عرسال. صارت كالبحر الأبيض المتوسط»، في إشارة إلى لون الخيم البيضاء المذيّلة بشعار مفوضية اللاجئين الأزرق. برغم تضامنها مع «الثورة» كما تصفها، لكنها تشكو العبء الذي تسبّب به النازحون الذين فاق عددهم المئة ألف، أي بزيادة ثلاثة أضعاف عن العراسلة. «في البداية، استضفناهم بموجب الجيرة وطيبة القلب على أنهم باقون لأشهر فقط. إنما الآن لم نعد قادرين على تحمّلهم. سرقوا فرص العمل من الشباب العراسلة ونشروا الأوبئة».
يرفض سعود أمون كلام ابتسام. أقام في فليطا السورية طوال 25 سنة قبل أن يقرّر العودة إلى مسقط رأسه عام 1997. «لم أسمع يوماً أي تمييز بحقي، لا في مدرسة ولا في مهنة». يأسف للنقمة العرسالية تجاه الجيران. «كيف أضروا بنا»؟ يتساءل. «عندما عدت إلى عرسال، لم يكن هناك سوق أو حتى دكانة. كنا نذهب إلى حمص لنشتري الألبسة أو إلى زحلة لنصلح سياراتنا. أما بعد النزوح السوري، باتت البلدة تشهد ازدحاماً في المحال على أنواعها. حتى مناشر الحجر التي يقوم عليها اقتصاد البلدة. كان هناك مئة. أما بعد السوريين، فصارت 600. كل تلك المصالح، من يؤمن استمراريتها من العمل إلى الشراء؟ أليس العامل السوري؟».