لندن | ستَدخل ليز تراس التاريخ حتماً، بوصْفها صاحبة أقصر ولاية في رئاسة وزراء المملكة المتحدة، بعدما أعلنت، أوّل من أمس، من أمام مقرّ الرئاسة (في "10 دواننيغ ستريت" في لندن)، أنها أبلغت الملك تشارلز الثالث برغبتها في الاستقالة من زعامة حزب «المحافظين»، والتنحّي عن المنصب الأهمّ في السلطة التنفيذية في البلاد، بعد 44 يوماً فقط من وصولها إليه، من خلال انتخابات داخل الحزب، خلَفاً لبوريس جونسون. ويبدو أن قيادة «المحافظين»، الذين يتمتّعون منذ عام 2019 بغالبية مريحة في مجلس العموم مَكّنتهم من احتكار السلطة حتى موعد الانتخابات المقبلة في كانون الثاني 2025، أُعلمت برغبة الملك في تسريع عملية تصعيد رئيس وزراء جديد، لتجنّب وقوع البلاد في مزيد من الفوضى. ولذا سارع غراهام برادي، رئيس لجنة النظام الداخلي في الحزب - تُعرف بـ«لجنة 1922» -، إلى تجاوُز الإجراءات التقليدية التي تستغرق عادةً أكثر من شهرين، مُعلِناً تنظيم عملية مستعجلة - على مرحلتَين - لانتخاب خلَف لتراس، يُفترض أن تُحسم مع نهاية الأسبوع المقبل (الجمعة 28 تشرين الأوّل)، بحيث يمكن للحكومة عندها تقديم خطّتها المالية المنتظَرة بعدها بثلاثة أيام (31 أكتوبر). واشترطت اللجنة تأييد 100 - كحدّ أدنى - من نوّاب الحزب في مجلس العموم (مجموع عددهم 356) لقبول ترشيحات المتنافسين. وكانت تراس أعلنت، في كلمة مقتضبة أمام الصحافيين، أنها لم تَعُد قادرة على الوفاء بالتفويض الذي منحه إيّاها حزبها من أجل تحقيق النمو الاقتصادي والتخفيضات الضريبية، وأنها لذلك استقالت، وستُدير حكومة تصريف الأعمال إلى حين انتخاب خلَف لها. وجاء هذا بعدما أطلقت رئيس الوزراء المنصرِفة حالة هستيريا في الأسواق لدى إعلانها تفاصيل خطّة الإنفاق وتخفيض الضرائب في ميزانيّتها الموجَزة من دون تحديد مصادر تمويلها، مُتسبِّبةً باهتزاز مكانة الأدوات المالية السيادية للدولة البريطانية، وتراجُع قيمة عملة البلاد إلى أقلّ مستوياتها التاريخية على الإطلاق مقابل الدولار الأميركي. وفي وقت تُواجه فيه بريطانيا واحدة من أسوأ حالات فقدان الثقة في تاريخها، حيث ارتفعت تكلفة اقتراضها لتَفوق مستويات دول مفلسة مِن مِثل إيطاليا واليونان، فشلت تراس في تسويق خُطّتها لإخراج المملكة من الركود الاقتصادي واستعادة النموّ، ما اضطرّها إلى التراجُع عن أجزاء منها، والتخلّي لاحقاً عن وزير ماليّتها وحليفها المقرّب كواسي كوارتنغ، واستبداله بجيريمي هانت، الذي سارع إلى إلغاء معظم الأجزاء الأخرى من الخطّة، وشرع في العمل على ميزانية جديدة يُفترض به تقديمها إلى مجلس العموم في 31 الجاري. لكن تلك الإجراءات لم تقنع الأسواق العالمية، كما لم تفلح في تخفيف الضغوط عن بنك إنكلترا المركزي، ولذا لم يكن ممكناً إبقاء تراس في السلطة حتى الموعد المذكور من دون تكلفة باهظة. وزادت الأمر سوءاً استقالةُ وزيرة الداخلية - بحجّة تحمّل المسؤولية عن إرسال معلومات رسمية عبر البريد الإلكتروني الشخصي -، كما بعض كبار مساعديها، في ما قُرئ على أنه استعداد لمغادرة السفينة المتّجهة إلى الغرق.
تصعيد خليفة لتراس لن يكون كافياً بالطبع لتدارُك عاصفة الأزمات المتراكمة


الآن، وبحسب المراقبين ومكاتب المراهنات في لندن، فإن ريشي سوناك - وزير المالية في حكومة جونسون ومنافِس تراس في الجولة الأخيرة من انتخابات الحزب بداية أيلول الماضي - يُعدّ أقوى المرشّحين لتولّي المنصب بحُكم خبرته المديدة في التعامل مع الأسواق، مصرفياً ووزيراً. لكن ثمّة مرشّحين آخرين لديهم قاعدة دعم مهمّة بين نواب الحزب الحاكم، ومنهم بيني موردونت، وبن والاس، وسويلا برافرمان، وكيمي بادنوخ، إلى جانب بوريس جونسون، رئيس الوزراء السابق، الذي حصل في استطلاعات الرأي على أعلى نسبة تأييد شعبي في أوساط «المحافظين» (حوالى 160 ألف عضو)، فيما يُعتقد أنه لن يتمكّن من جمْع أصوات كافية بين النوّاب لخوض المنافسة. وفي المقابل أعلن جريمي هانت، الذي يدير حقيبة المالية، عزوفه عن الترشّح. وكذلك فعل الوزير السابق، مايكل جوف.
على أن رحيل تراس، وتصعيد خليفة لها من داخل صفوف الحزب الحاكم، لن يكون كافياً بالطبع لتدارُك عاصفة الأزمات المتراكمة التي تُواجهها المملكة، والتي تبدو أعمق وأكبر من أن تتمكّن الفلسفة الاقتصادية النيوليبرالية للمحافظين من حلّها. وفي الحقيقة، فإن رئيسة الوزراء المُغادِرة لم تكن سوى واجهة أخرى لتوجّهات المحافظين اليمينية بشكل أو آخر، لا سيّما تلك النواة الصلبة من النيوليبراليين، والتي تريد فرْض نموذج متطرّف من سياسة تحرير الأسواق. وتتبنّى النُخبة الحاكمة، منذ حكومة مارغريت تاتشر (بداية الثمانينيات من القرن الماضي)، نهجاً نيوليبرالياً متكاملاً يمثّل مصالح القلّة المتنفّذة؛ إذ خصخصت بشكل شبه كليّ قطاعات الطاقة والنقل والمياه، وفتحت أبواب قطاعات التعليم والصحّة والبريد للمستثمرين، وقلّصت من تعداد قوات الجيش والبوليس، وفرضت سياسات تقشّف قاسية، وتجنّبت الإنفاق على البنية التحتيّة، وأعادت تموضع اقتصاد المملكة كمصرف عالمي لتبييض الأموال والاستثمار والخدمات. ولذلك، فإن أيّ رئيس وزراء مقبل لن يستطيع إخراج بريطانيا من هذه الحلقة المفرغة.
ويخشى كثيرون، الآن، من أن إلغاء خطط تراس الاقتصادية، يعني بالضرورة استعادة استراتيجية تقشّفية، تكون محاورها تقليص الإنفاق العام، وتخفيض التقديمات الاجتماعية للفئات الأقلّ حظاً، وإلغاء المساعدات الدولية التي تقدّمها بريطانيا لحلفائها الفقراء، وربّما فرض مزيد من الضرائب. ومن شأن استراتيجية من هذا النوع أن تُطمئن رؤوس الأموال بشأن قدرة بريطانيا على الدفع والوفاء بالتزاماتها للدائنين، لكنها ستكون أشبه بـ«فيلم رعب» للطبقة العاملة التي تراجعت دخولها الحقيقية إلى مستويات قياسيّة لم تشهدها البلاد منذ أكثر من أربعين عاماً. وكانت أجندة التقشّف التي تبنّاها رئيس الوزراء (المحافظ) الأسبق، ديفيد كاميرون، ووزير ماليّته، جورج أوزبورن، للتعامل مع مترتّبات الأزمة المالية العالمية (2008)، قد هشّمت النموّ الاقتصادي، وأفشلَت جهود استقطاب المستثمرين، وأنهكَت الخدمات العامّة، وأفقرَت الملايين من الفئات المهمَّشة والمعدمة أصلاً.
إزاء ذلك، دعت أحزاب المعارضة إلى إجراء انتخابات عامّة فورية، وجادلت بأن المحافظين لم يَعُد لديهم تفويض شعبيّ للانفراد بالحُكم. ونُقل عن كير ستارمر، زعيم «حزب العمل»، قوله: «بعد اثني عشر عاماً من تراكُم فشل حزب المحافظين، يستحق الشعب البريطاني أفضل بكثير من دوّامة الفوضى هذه»، معتبراً أن «الضرر الذي أحدثه المحافظون سيستغرق سنوات لإصلاحه». وطالب إيان بلاكفورد، زعيم «كتلة الحزب الوطني الإسكتلندي» في مجلس العموم، من جهته، بـ«إجراء انتخابات عامّة بصفة عاجلة»، فيما قالت كارلا دينير، من قيادة «حزب الخضر»: «لقد تصاعدت فوضى (سيرك) المحافظين بما يتجاوز أيّ ادّعاء بأن لهذي البلاد حكومة قابلة للحياة».