موسكو | في ظلّ تَعقُّد الوضع الميداني حول مدينة خيرسون، وحديث موسكو عن ضرورة «اتخاذ قرارات مصيرية» هناك - فُسِّرت في كييف باعتبارها مقدمة للانسحاب -، تبدو المدينة مقبلةً على معركة صعبة، إلى حدّ حديث المحلّلين الروس عن إمكانية تحوّلها إلى «ستالينغراد ثانية». وإذ يأتي التَوجّه الروسي للقتال هناك ترجمة لمقتضيات عملية الضمّ التي أقدمت عليها موسكو أخيراً لخيرسون وثلاث مناطق أوكرانية أخرى، فقد عزّز ذلك التوجّهَ أيضاً قرارُ الرئيس فلاديمير بوتين فرْض الأحكام العرفية في المناطق الأربع، والذي يعني عملياً إعلان «حالة حرب» فيها، في ضوء «استمرار الهجوم على أراضي الاتحاد الروسي»
في قرار استثنائي هو الأحدث، أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، فرْض الأحكام العرفية في المناطق الأوكرانية الأربع التي ضمّتها روسيا أخيراً (دونيتسك، لوغانسك، زابوروجيا، وخيرسون)، كما أصدر مرسوماً حدَّد بموجبه أربعة مستويات للجاهزية تختلف من منطقة روسية إلى أخرى. بهذَين القرارَين، وضع بوتين بلاده أمام مرحلة جديدة من حملتها العسكرية على أوكرانيا، معلِناً، عملياً، «حالة حرب» في المناطق المُشار إليها تحديداً، معلّلاً قراره هذا بـ«استمرار الهجوم على أراضي الاتحاد الروسي»، على ما جاء في ديباجة المرسوم الصادر أوّل من أمس. وفي هذا الإطار، اعتبر رئيس لجنة مجلس الاتحاد الروسي للدفاع والأمن، فيكتور بونداريف، أن القرار الذي «جاء في الوقت المناسب»، من شأنه أن «يحقّق الأهداف المحدّدة (للعملية) بشكل أسرع»، على أن يصار في المرحلة التالية إلى «إنشاء لجنة دفاع الدولة التي لن تتعامل مع أمن البلاد فحسب، بل ستُكيّف الاقتصاد الروسي مع حالة الحرب». ولفت الخبير العسكري، فلاديسلاف شوريجين، من جهته، إلى أن «المناطق التي تدور فيها الأعمال العسكرية، عَرفت الأحكام العرفية منذ ثماني سنوات. الآن، هناك موافقة قانونية نهائية على ما يجري منذ فترة طويلة»، موضحاً، في حديث إلى صحيفة «فزغلياد»، أن «الأحكام العرفية تعني خضوع كلّ شيء لقيادة الجيش».
وفي موازاة هذَين المرسومَين، قرّر بوتين إنشاء «مجلس تنسيقي» يُشرف عليه رئيس الوزراء، ميخائيل ميشوستين، ويضمّ ممثّلين عن وزارات: الدفاع، الداخلية، الطوارئ، الحرس الروسي، وكلّ من جهاز الأمن الفيدرالي، جهاز الاستخبارات الخارجية، المديرية الرئيسة للبرامج الخاصة للرئيس، والهيئات الفيدرالية الأخرى ومجلس الدولة. وتعليقاً على إنشاء هذا المجلس، رأى الخبير الاقتصادي الروسي، إيفان ليزان، أنه «صُمّم لتنسيق إدارة الاقتصاد في الظروف الجديدة»، مشيراً إلى أنه ذكّره بـ«لجنة دفاع الدولة» التي أنشأها جوزف ستالين إبّان الحرب الوطنية العظمى، مع اختلاف أن الأول خاضع لإشراف رئيس الوزراء لا رئيس الدولة، فيما وُضعت السلطة العسكرية للحرب في يد الجنرال سيرغي سوروفكين.
بدأ الجيش الأوكراني عملياته على محاور عدة، في محاولة للتقدم في اتجاه مدينة خيرسون


وجاءت القرارات الآنفة متزامنة مع تطورات ميدانية تراوحت بين استعادة الجيش الروسي المبادرة في شمال شرقي أوكرانيا، وازدياد تعقّد جبهة خيرسون جنوباً، حيث يَتوقّع الطرفان الروسي والأوكراني «معركة صعبة». وفي تصريحات صحافية هي الأولى بخصوص خيرسون، أشار سوروفكين إلى «خطورة الوضع» هناك، والذي يتطلب «اتخاذ قرارات مصيرية»، وهو ما جرى تفسيره في كييف على أنه مؤشر إلى رغبة موسكو في الانسحاب من المدينة، خصوصاً في ظل عمليات الإجلاء المتواصلة للمدنيين التي طاولت تقريباً 40% من عدد سكانها. وعلى مدى الأشهر الماضية، تركزت تصريحات الجانب الأوكراني على استعداده لشن عملية عسكرية مضادة لاستعادة خيرسون التي سيطرت عليها القوات الروسية في 15 آذار الماضي، وقد حشدت كييف لهذه المعركة - وفق خبراء روس - 60 ألف جندي مجهزين ومدربين على أيدي «الناتو»، ومسلحين بأحدث المعدات، بما فيها صواريخ «هيمارس» الأميركية التي استخدمتها القوات الأوكرانية في قصف المدينة أخيراً. وبحسب الخبراء، فإن لنظام كييف «مصلحة مزدوجة» في خيرسون: تتمثّل الأولى في حاجته - قبل بدء فصل الشتاء - إلى «نصر جديد» بأي ثمن بعد النجاح الذي حققته القوات الأوكرانية في خاركيف؛ والثانية، إثبات فعالية الجيش للرعاة الغربيين لضمان استمرار الدعم المالي والعسكري، واستعجال حصْد مكسب قبل الـ8 من تشرين الثاني، موعد الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي، حتى يتمكّن الديموقراطيون من إظهار فعالية المساعدة العسكرية لأوكرانيا أمام الرأي العام في الولايات المتحدة، لا سيما في ظل تقديرات تشير إلى احتمال تراجع هذا الدعم في حال اكتساح الجمهوريين مجلسَي الكونغرس. في المقابل، باتت موسكو تَعتبر خيرسون «مدينة روسية عادت إلى قوام الاتحاد». ولذا، فهي ستُدافع عنها من منطلق الحفاظ على «وحدة أراضي البلاد»، فضلاً عن أهميتها كممر برّي إلى شبه جزيرة القرم، وكونها شريان حياة للأخيرة بسبب تزويدها إياها بالمياه.
وبالفعل، بدأ الجيش الأوكراني عملياته على محاور عدة، في محاولة للتقدّم في اتجاه المدينة، حيث يتم استهداف مرافق البنية التحتية والمباني السكنية، وفق خبراء عسكريين روس أفادوا بتضرّر جسر أنتونوفسكي وسدّ محطّة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية، واعتبروا أن القيادة العسكرية الأوكرانية فسّرت «خطأً» تصريحات سوروفكين حول ضرورة اتخاذ «قرارات مصيرية» في شأن خيرسون، باعتبارها إياها مؤشراً إلى «الانسحاب من المدينة»، فيما «الجيش الروسي يُظهر نيّته للقتال دفاعاً عن الأراضي الروسية». وهذا ما أكده أيضاً القائم بأعمال حاكم منطقة خيرسون، فولوديمير سالدو، المُعيّن من قِبَل موسكو، بقوله: «لا أحد سيسلّم خيرسون، والجيش يعرف ماذا يفعل». وفي هذا الإطار، رأى المحلّلون الروس أن «خيرسون، على ما يبدو، ستتحوّل إلى قلعة عسكرية»، حتى أن بعضهم تنبّأ بمصير «ستالينغراد الثانية» للمدينة. ورأى الأستاذ في العلوم العسكرية، قسطنطين سيفكوف، أن «القوات الروسية مستعدة جيداً لصد هجوم القوات الأوكرانية للسيطرة على خيرسون»، مرجحاً أن يعمد الجيش الأوكراني إلى تفجير السدّ في محطة كاخوفسكايا لقطع الاتصال بين القوات الروسية على ضفتَي نهر دنيبر. وأشار إلى أن «القوات الأوكرانية حشدت أعداداً كبيرة للمعركة على غرار ما فعلته في خاركيف. لكن مشكلة تلك القوات أنها فقدت ميزة المفاجأة»، مستدركاً، استناداً إلى تصريحات سوروفكين، بالقول: «من الواضح أننا نستعدّ بالفعل لهذه المعركة، ونعرف قوّة العدو وتصرّفاته وخططه. ونتيجة لذلك، يمكن أن تتكبد القوات المسلحة الأوكرانية خسائر فادحة للغاية».