خلافاً لما روّج في السنوات الثلاث الماضية، لم يحصل الانهيار في 17 تشرين الأول 2019. ما حدث يومها في الشارع، في الأيام الأولى، وفي الأيام التي تلت، سواء كانت تحرّكات عفوية أو مستغلّة أو موجّهة أو استغلت ووجهت لاحقاً، لا يمكن بأي شكل اعتبارها محطة الانهيار. حصل الانهيار قبل ذلك بكثير. فالأشهر التي سبقت هذا التاريخ كانت تفيض بالمؤشّرات عن انهيار نقدي وشيك. وفي تلك الفترة، كان الانهيار قد بدأ بالفعل، قياساً على ما يُسمّى «قانون هيمنغواي» الذي يفترض أن الأزمات تبدأ «تدريجاً، ثم فجأة». فالانهيارات لديها دينامية تعبّر عنها من خلال مؤشرات لا تظهر للعموم بوضوح، إنما تكون ساطعة لدى صانعي القرار. وهذا ما دفع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى إصدار التعميم 530 في 30 أيلول 2019 الذي كان أول تعبير عن اللاعودة إلى مرحلة تثبيت سعر الصرف التي بدأت في 1994.يومها، أي في 30 أيلول 2019، لم يكن المجلس المركزي لمصرف لبنان قائماً، بسبب انتهاء ولاية نواب مصرف لبنان. لذا، كان الحاكم رياض سلامة، يناقش ويوقّع ويُصدر منفرداً التعاميم بالاستناد إلى «استمرارية المرفق العام». أصلاً غالبية نواب الحاكم الذين تعاقبوا على هذا المنصب كانوا مجرّد واجهات. المهم، أصدر سلامة التعميم الذي يرمي إلى «تأمين فتح الاعتمادات بالدولار الأميركي»، وهو موجّه إلى «المصارف التي تفتح اعتمادات مستندية مخصّصة حصراً لاستيراد المشتقات النفطية (بنزين، مازوت، غاز)، أو القمح، أو الأدوية». وهذا يعني أن المصارف لم يكن لديها سيولة بالدولار لفتح الاعتمادات، وأن مصرف لبنان الذي يملك هذه السيولة حصرها بسلع محدودة. ولم يذكر مصرف لبنان أن سعر هذه السيولة مختلفة عن سعر السيولة في السوق، إنما الأفراد والشركات أدركوا ذلك في اليوم التالي. إذ كان مصرف لبنان يبيع المصارف الدولار الواحد من هذه السيولة بقيمة 1507.5 ليرات وسطياً، بينما كان معدل سعر الدولار الواحد في السوق الحرّة قد بلغ بتاريخ صدور التعميم 1550ليرة وفق «Lebaneselira.org».
جذور الأزمة كانت تعود إلى بنية النموذج منذ تركيبه في مطلع التسعينيات. كانت كلما ظهرت مؤشرات على الانهيار، أنقذت بفعل مؤتمرات باريس، أو بفعل الصدفة التي تمثّلت في أزمة مالية عالمية دفعت التدفقات إلى لبنان، أو بفعل الهندسات المالية. لكن منذ مطلع 2019 بدأت تصدر تقارير مكثّفة ومتتالية من وكالات التصنيف الدولية، والتي ضُمّنت تحليلات عن مدى كفاية احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. وفي مطلع تلك السنة، أعدّ المسؤول السابق عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في وزارة المال طلال فيصل سلمان، اقتراحاً سريّاً بإعادة هيكلة الدين العام. وفي تلك الفترة، تلقى زبائن المصارف عروضات لتجميد ودائعهم لمدّة سنة أو أكثر بفوائد فاقت 20% على الدولار، وبدفعات مقدمة فوراً من الفائدة. الزبائن الذين رفضوا الإغراءات تعرضوا للتضييق لثنيهم عن تحويل أموالهم إلى الخارج. لكن وراء هذا السلوك المصرفي، رواية يتناقلها المصرفيون يومياً عن أن الودائع عالقة لدى مصرف لبنان. فهذا الأخير كان قد استحوذ على 200 ألف مليار ليرة من الأموال التي تديرها المصارف، وكانت غالبية سيولة المصارف بالعملات الأجنبية في قبضته. لذا، كان تسديد الوديعة يتطلب شراء الدولارات من مصرف لبنان الذي أوقف، اعتباراً من آذار 2019، إعادة الدولارات التي تستحق لهم، بل بات يقرضهم إياها بفوائد باهظة.
تقنياً، مصرف لبنان هو أول من توقف عن السداد، وتزامن ذلك مع توقف المصارف عن السداد. وهذا الأمر حصل على دفعات متدرّجة - وفق قانون هيمنغواي - ثم فجأة قرّرت المصارف الإقفال. ولغاية اليوم، أي بعد مرور ثلاث سنوات، لا يقرّ غالبية المصرفيين بما حصل فعلياً بالنقاشات التي دارت فعلياً بينهم وبين حاكم مصرف لبنان في الولايات المتحدة الأميركية حيث كانوا يشاركون في اجتماعات الخريف لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لكن بعضهم أفصح أخيراً عما حصل: «في الاجتماع الذي عُقد بحضور الحاكم دار نقاش بين المصرفيين حول الإقفال وضرورته. المصارف لم تقفل في عزّ الحرب، لكن الحاكم ضرب يده على الطاولة صارخاً: بدكن تسكروا». هكذا أقفلت المصارف أمام الزبائن 12 يوم عمل متتالية، لكنها لم تقفل بشكل كلّي بل كانت بعض الأقسام الداخلية تعمل وتنفّذ التحويلات إلى الخارج التي استفاد منها: مساهمو المصارف، سياسيون، زبائن محظيون. أحد أبرز الأمثلة أن واحداً من أمراء الخليج حصل على وديعته التي تفوق 220 مليون دولار. وهذا الأمر لا يعني أن المصارف لم تكن متواطئة، بل على العكس كانت المصارف مدركة تماماً لما يحصل. أحد أصحاب المصارف، وهو شاب ورث إلى جانب شقيقته، حصتهما في المصرف عن والدهما، يقول إنه كان يعلم منذ سنتين أن الأزمة آتية من خلال قراءة المؤشرات المالية والنقدية لكنه لم يستطع معارضة الحاكم. فالمصرفيون اغتنوا بسبب النموذج الذي أداره الحاكم منذ مطلع التسعينيات، وكان لحم أكتافهم من المال العام والخاص، الذي يطبعه ويستقطبه ويوزّعه الحاكم حصراً عبر آليات منها التعاميم والهندسات.
بدأت الأزمة وسقطت الحكومة، ثم فجأة ظهرت ورقة إصلاحية، وتوالت الأحداث في الشارع، إلى أن توقفت الدولة عن السداد في آذار 2020، أي بعد نحو سنة على توقف مصرف لبنان والمصارف عن الدفع. التُهم التي قذفت بوجه رئيس الحكومة حسان دياب كانت خديعة للتهرّب من عملية توزيع الخسائر. ففي تلك الفترة، تألفت لجان عدّة برعاية رئاسة الحكومة مهمتها توزيع الخسائر وإعداد عملية إعادة الهيكلة ضمن خطّة. لم يكن حصول هذه اللجنة على أرقام من مصرف لبنان مهمة سهلة. كانت هناك ممانعة واسعة لاحتساب الخسائر، إلا أنه تبيّن فجأة أن مصرف لبنان يسجّل هذه الخسائر في ميزانيته باعتبارها مداخيل ستتحقق في المستقبل. قيدّت هذه الخسائر في حسابين أحدهما كان صفراً قبل تشرين الثاني 2015، والثاني كان يسجّل فيه 696 مليار ليرة في عام 2000. في نهاية 2019 بلغ مجموع الخسائر 55320 مليار ليرة، وفي تموز 2022 صارت 124 تريليون ليرة.
الضخّ النقدي المتواصل أتاح للقطاع الخاص تصحيحاً جزئياً للأجور وأدخل الاقتصاد في دوامة التضخّم


عملياً، سلّمت إدارة الأزمة لحاكم مصرف لبنان. أدارها بعقل بارد من خلال تعدّدية أسعار الصرف. فالتعميم 530 خلق تمايزاً بين الدولار الحرّ في السوق وبين الدولار المحجوز لدى المصارف. أطلق عملية الدعم التي صبّت غالبيتها في جيوب ثلة تجّار تشاركهم نخب سياسية، وباتت تجارة الشيكات رائجة. حتى أنه روّض الصرافين التقليديين الذين كان يجمعون الدولارات له، واستبدلهم بالترخيص لخمسة صرافين من فئة «أ» مهمتهم جمع الدولارات له مقابل عمولات. حصل الكثير في السنوات الثلاث الماضية إنما انتهى الأمر بتكيّف جماعي مع التطوّرات. فالنتيجة اليوم خيالية: تقلص الناتج المحلي الإجمالي من 51.9 مليار دولار إلى 14.1 مليار دولار، أي 3.6 مرات. كما ارتفع سعر الدولار مقابل الليرة من 1507.5 ليرات وسطياً إلى 40 ألف ليرة اليوم أي 26.5 ضعف. وتضخّمت الأسعار أكثر من 1200%، بينما لم يتم تصحيح الأجور بأكثر من 100%. وفي آخر «إصداراته» ضخّ مصرف لبنان 26400 مليار ليرة في السوق خلال 40 يوماً من 31 آب لغاية 15 تشرين الأول الجاري. ويتزامن ذلك بشكل مريب مع الزيادة في خسائره بقيمة 23 ألف مليار ليرة. الكتلة النقدية التي ضخّها مصرف لبنان منذ مطلع 2019 لغاية اليوم تضاعفت 12.6 مرة، والودائع في المصارف لم تنخفض سوى 1.6 مرة.
عملياً، كان مصرف لبنان يطبع النقود ويضخّها في السوق عبر تعاميم مختلفة منها 151 و158، أي أنه لم يكن يضخّ النقد بهدف موازنة حاجات السوق من العملة، بل بهدف إطفاء الخسائر في القطاع المصرفي من خلال تغطية السحوبات وفق هذين التعميمين بقيمة 8000 ليرة للدولار وبقيمة 12000 ليرة مقابل الدولار. وبالطبع كان يغطّي أيضاً الزيادات البخسة في أجور القطاع العام. تضاعف الكتلة النقدية بهذا المستوى مخيف ومقلق بسبب أثره السلبي الواسع على سعر الصرف الذي سجّل قفزة عملاقة لغاية اليوم أيضاً. فبهذه الأرقام لن تكون هناك توقعات إيجابية وهذا ما ظهر فعلاً بعدما أنجزت قوى السلطة عملية الترسيم البحرية، إذ إن سعر الدولار استمرّ بالارتفاع.
ما يحصل الآن ينطوي على سمة مناقضة تماماً لما حصل في 17 تشرين الأول 2019. فإذا كانت الانتفاضة يومها، ردّ فعل على الانهيار، فإن التكيّف هو ردّ فعل على تبعات هذا الانهيار لثلاث سنوات متتالية. الأمر ليس مفاجئاً، فالضخّ النقدي المتواصل، أتاح للقطاع الخاص تصحيحاً جزئياً للأجور، لكنه أدخل الاقتصاد في دوامة التضخّم والأجور التي تتغذى على ارتفاع سعر الصرف وعلى ضخّ النقد. كل هذا الإجرام لم يقابله للآن سوى التكيّف!