خلال بضع ساعات، ومن دون مواجهات عنيفة، باستثناء بعض المعارك الجانبية التي ذكرت مصادر ميدانية أن 18 مقاتلاً ذهبوا ضحيّتها، وصلت أرتال «هيئة تحرير الشام» إلى مدينة عفرين، لترْسم مشهداً جديداً، كان يمثّل حتى وقت قريب أحد كوابيس فصائل عديدة منتشرة في ريف حلب الشمالي. ومن شأن هذا التحوُّل، الذي جاء هذه المرّة مدفوعاً باقتتال في ريف حلب الشمالي الشرقي (الباب) على خلفيّة حادثِ اغتيالٍ لناشطٍ وزوجته، حاولت بعض الفصائل وعلى رأسها «الجبهة الشامية» استثماره لإنهاء وجود «فرقة الحمزة» - إحدى أبرز الجماعات التي تقوم بتجنيد مقاتلين لصالح الاستخبارات التركية للقتال خارج سوريا -، أن يمكّن الجولاني من توسيع مناطق سيطرته لتشمل إدلب وعفرين وجبالها في ريف حلب، بما يوفّر له مصادر دخْل إضافية، سواء عبر سيطرته على معابر التهريب، أو حتى من خلال المشاركة في المشاريع السكنية التي تعمل تركيا على إنشائها على طول الشريط الحدودي.اللافت، في خضمّ تلك التطوّرات، هو الصمت التركي حيالها، في ما تمّ تفسيره على أنه قبول بالوضع الجديد، إنْ لم تكن أنقرة نفسها قد أعطت الأوامر بإرسائه، وفق ما سرّبته مصادر ميدانية. وممّا يعزّز رواية «التواطؤ» التركي هو أن تَغوّل «تحرير الشام» يأتي في ظلّ تحوّلات عديدة، أبرزها الالتفافة التركية نحو دمشق، والتي لا تفتأ واشنطن تحاول مُعاكستها بجميع الوسائل، السياسية وحتى الميدانية، من خلال السعْي لاختراق الفصائل الموالية لتركيا، وتشكيل مظلّة جامعة لها تحت إشراف أميركي. ومن هنا، يبدو أن أنقرة استعجلت تنفيذ مشروعها الذي دأبت على حبْكه وتسويقه خلال العامَين الماضيَين، تمهيداً لتوحيد مناطق سيطرتها تحت راية الجولاني، بعد نجاح الأخير في «ضبط الأمن»، ومساهمته الفعّالة في فرْط عقْد معظم الفصائل «الجهادية» الأخرى، وفتْحه سجونه لتركيا لتحويلها إلى معتقلات خارج الحدود، بالإضافة إلى دوره في مشروع «مدن الطوب» لإعادة توطين اللاجئين السوريين قرب الشريط الحدودي، سواء عبر تأمين عمليات البناء أو المشاركة فيها بواسطة شركات مقاولات عديدة.
يبدو أن أنقرة استعجلت تنفيذ مشروعها الذي دأبت على حبْكه وتسويقه خلال العامَين الماضيَين


وسبقت اقتحامَ «تحرير الشام» عفرين، سلسلةُ لقاءات أجراها الجولاني مع ممثّلين عن فصائل تعرّضت لمضايقات من «الجبهة الشامية»، أبرزها «لواء السلطان مراد» (إحدى الأذرع التابعة للاستخبارات التركية أيضاً)، إلى جانب «فرقة الحمزة» و«حركة أحرار الشام» التي شهدت سلسلة انشقاقات على خلفيّة رغبة بعض الأذرع فيها في الالتحاق بمشروع الجولاني، وميْل أطراف أخرى إلى خطّة «الشامية» لخلْق كيانٍ موازٍ لـ«تحرير الشام»، تُمثّل «الحكومة المؤقّتة» وراعيها، «الائتلاف السوري» المعارض الذي يتعرّض لضغوط تركية متزايدة، واجهته المؤسّساتية. وعلى رغم توافُر الأرضيّة الملائمة لاستمرار سيطرة الجولاني على عفرين، والانطلاق منها إلى مناطق أخرى، إلّا أن بقاءه فيها قد يشكّل تهديداً لمشروع توحيد الفصائل الذي تتطلّع إليه تركيا، وهو ما قد يُجبر «تحرير الشام»، وفق مصادر ميدانية تحدّثت إلى «الأخبار»، على الانسحاب مرّة أخرى إلى إدلب بشكل صُوري، بعد تمهيد الأرض لتمكين الفصائل التي تحالفت مع الجولاني، بالإضافة إلى التوقيع على تعهّدات بعدم المساس بمصالح الرجل. ولربّما يشكّل ذلك «صفقة مرضية» لتركيا، يمكن البناء عليها في مراحل لاحقة لخلْق تشكيل موحّد يمكن تسويقه على أنه ممثِّل عن الفصائل المعارضة، فيما هو في حقيقة الأمر تحت قيادة الجولاني من خلْف الستار. ومن المنتظَر أن يترافق هذا مع استمرار خطوات الانفتاح على دمشق، خصوصاً عبر فتْح معابر دائمة لإعادة النازحين واللاجئين، وتمرير المساعدات من خلال الحكومة السورية إلى المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا، ما يزيح عن الأخيرة عبء اللاجئين من جهة، ومن جهة ثانية التكاليف الدورية التي تتحمّلها لصالح الفصائل، والتي لا تشمل الجولاني، على اعتبار أن الأخير تمكّن من تحقيق آلية تمويل ذاتية أساسها السيطرة على جميع مفاصل الحياة الاقتصادية في مناطقه.
في غضون ذلك، مدّدت الولايات المتحدة «حالة الطوارئ» حول سوريا، ما يعني ضمان وجود «بند قانوني داخلي» لبقاء القوات الأميركية في سوريا، والذي تتّخذ واشنطن من «مكافحة الإرهاب» غطاءً له. وتضمّن القرار الذي وقّع عليه الرئيس الأميركي جو بايدن، ربطاً بين مكافحة تنظيم «داعش» والتهديدات التركية بشنّ هجوم على مناطق سيطرة «قسد» في الشمال الشرقي من سوريا، الأمر الذي يشي باستمرار المناكفة بين واشنطن التي تحاول بشتّى الطرق عرقلة المشروع الروسي للحلّ في سوريا، وأنقرة التي أظهرت ميلها إلى الأخير، حتى الآن.