للمرّة الثالثة على التوالي، يعود قانون السرية المصرفية إلى الهيئة العامة لمجلس النواب. الصيغة الأولى التي أقرّها مجلس النواب ردّها رئيس الجمهورية طالباً إضفاء تعديلات تتعلق بصلاحيات النيابات العامة والقضاء المختص من جهة، وتأكيد المفعول الرجعي للقانون. أقرّ القانون للمرة الثانية، لكن عون ردّه مجدداً لأن الهيئة العامة رفضت تضمينه مفعولاً رجعياً أو صلاحيات واضحة للنيابات العامة، ومنح لجنة الرقابة على المصارف ومؤسّسة ضمان الودائع ومصرف لبنان صلاحية طلب رفع السرية المصرفية عن الحسابات المالية، علماً بأن هذه الملاحظات جرى التوافق عليها بين عون وصندوق النقد. هكذا عاد القانون إلى لجنة المال والموازنة حيث أعيد النقاش فيه وأحيل مجدداً إلى الهيئة العامة بتعديلات ملتبسة!مضى نحو شهر و10 أيام على تاريخ ردّ رئيس الجمهورية للقانون. وأمس عقدت لجنة المال والموازنة، بناء على دعوة رئيسها النائب إبراهيم كنعان، جلسة لمناقشة التعديلات التي طلبها الرئيس. وبحسب المعلومات، فقد استهلّت الجلسة باعتراض عدد من النواب على آلية الردّ التي تفرض على الرئيس عون إطلاع مجلس الوزراء على مرسوم الردّ، لا الاكتفاء برئيس الحكومة منفرداً. ثم تبيّن لاحقاً أن الجلسة انتهت إلى «خبصة» في تعديل بعض الفقرات.
كل نائب اتصلت به «الأخبار»، قدّم رواية مختلفة عن الآخر بشأن التعديلات التي أجريت. ولم يتكلّف أيّ منهم عناء طلب صياغة التعديلات داخل الجلسة حتى يكون التوافق موثقاً في ورقة واحدة جاهزة، وليس عبر تقرير يفترض أن يقوم كنعان بصياغته ورفعه إلى الهيئة العامة. وهذه إشكالية سبق أن حصلت في جلسة الهيئة العامة التي ناقشت السرية المصرفية بتاريخ 26 تموز حين صوّت النواب على تعديل في الفقرة 7، ليظهر لاحقاً أنها عُدّلت بخلاف ما اتُفق عليه. كذلك، حصل الأمر في ما يخصّ تأكيد رئيس مجلس النواب دمج مشروع القانون المرسل من الحكومة والمعدّل من قبل لجنة المال، إذ تبيّن أن الدمج لم يحصل.
يوم أمس، ناقشت لجنة المال ثلاثة تعديلات رئيسية طلبها عون وصندوق النقد على حد سواء:
1- إعطاء النيابة العامة صلاحية الوصول إلى المعلومات التي تسمح لها بتكوين الملف قبل إحالته إلى قضاة التحقيق. وبعد نقاش في هذا البند، لم يجرِ تغيير الفقرة التي طلب عون تغييرها، لأن غالبية النواب ورئيس اللجنة أفتوا بأن هذا التعديل، يتطلب تعديلاً موازياً في قانون أصول المحاكمات الجزائية، أو يتطلّب ذكر جملة «خلافاً لأي نص آخر» في القانون المعروض على اللجنة، لأنه بخلاف ذلك ستبقى حكماً صلاحية النيابات العامة برفع السرية فقط. أحد النواب، حاول تبرير الامتناع عن التعديل الذي طلبه الرئيس بالإشارة إلى أن صندوق النقد مطّلع على هذا «التفصيل»، مشيراً إلى أن ردّ الرئيس عون غير دقيق ويتبنّى مطالب الصندوق كاملة من دون مقارنتها بما ينطبق في لبنان. بدا من كلامه كأن الصندوق على دراية بأصول المحاكمات في لبنان وآليتها، لكن ما كان واضحاً هو أن كلامه أتى في سياق الهروب من هذا التعديل.
2- إضافة لجنة الرقابة على المصارف ومؤسسة ضمان الودائع ومصرف لبنان إلى الجهات التي يحقّ لها طلب رفع السرية المصرفية. هنا أيضاً تم تفريغ مطالب عون من خلال منح هذه الجهات الثلاث الصلاحية بشكل محصور بإطار إعادة هيكلة المصارف لا غير. علماً بأن طلب الصندوق هو أن تكون لديها قدرة على كشف السرية المصرفية غير محدودة. فقد لفت النواب إلى أن مصرف لبنان شخصية معنوية وتعمل داخله عشرات الدوائر، ما يوجب تحديد هذا المصطلح وتحديد الأصول التي تسمح للجهات برفع السرية. بحسب أحد الحاضرين، فإن بعض النواب مثل كنعان وميشال معوض وعلي حسن خليل قالوا إن منح هذه الصلاحية من دون ربطها بضوابط أو بشبهة، سيشرّع الاستنسابية والانتقام ويسمح بكشف خصوصية كل المواطنين. وأشاروا أيضاً إلى أن ذلك، سيؤدي إلى تسييس بعض القضايا عبر قضاة معينين من قبل السياسيين أنفسهم. كذلك أشار النائب جميل السيد، إلى أن هؤلاء الموظفين معينين من قوى سياسية وطائفية، بالتالي يفترض وضع ضوابط في ظل وجود هذا النمط من التعيينات حتى لا تتحول إلى نكايات وتنتهي بحماية كل زعيم لجماعته ليبقى الضحية غير المغطى سياسياً أو طائفياً ويصبح القانون كما الآن مطبقاً على الضعيف فقط.
النواب أعربوا عن قلقهم من تسييس بعض التعديلات على القانون واستخدامه للانتقام


وبعد أخذٍ ورد بقيت هذه المادة عالقة وسيتم إرسالها إلى الهيئة العامة بالاستناد إلى صيغتين مختلفتين لتختار واحدة منها: ربط طلب الجهات الثلاث رفع السرية بإعادة هيكلة المصارف، أو إحالة الطلب إلى قاضي الأمور المستعجلة ليبتّ به. على أن يكون باب الاعتراض لدى مجلس شورى الدولة مفتوحاً لمن يطلب رفع السرية المصرفية عن حساباته.
3- تطبيق المفعول الرجعي على العاملين في الشأن العام الذين يؤدّون وظيفة عامة أو خدمة عامة سواء بالتعيين أو بالانتخاب، بما يغطي تاريخ بداية ممارسة مهامهم وتستمر إلى ما بعد تاريخ استقالاتهم أو انتهاء خدماتهم أو إحالتهم إلى التقاعد. هذا البند لم يلق معارضة رغم الإشارة إلى وروده في قانون مكافحة الفساد ووجوب وضع ضوابط له. وعليه لم يعرف إذا أقرّ كما هو، أم جرى تعديل عليه، في انتظار التقرير الذي سيرسله كنعان إلى الهيئة العامة.
هكذا انتهت الجلسة وتفرق النواب الذين خرجوا من دون معرفة مضمون التعديلات بشكل واضح، ليتكرّر المشهد إياه مجدداً، بما أن الغاية المبيتة هي الإطاحة بقانون السرية أو تفصيله على قياس المصارف ورجال الأعمال والسياسيين. على أن عقد جلسة تشريعية لإقرار هذه التعديلات لن يطول بحسب المصادر، إذ يفترض ببري أن يدعو إلى جلسة قريباً أي قبيل تحول المجلس إلى هيئة انتخابية بتاريخ 21 من الشهر الجاري.