حظي العدوان الإسرائيلي الحالي على غزّة بالتغطية الإعلامية الكبيرة ولا نتحدث عن القنوات العربية، بل أيضاً ضمن القنوات الغربية، والسبب لا يعود بالتأكيد إلى كونه حدثاً جللاً فحسب، بل لأنه يمهّد لأحداثٍ مركزيةٍ في الشرق الأوسط. ولأننا نتحدث عن التغطية الإعلامية، فإن الفضائيات العربية التي غطّت الحدث تعاملت معه على طريقتها الخاصة. هي لم تعد أبداً وسيلةً ناقلةً للخبر فحسب، بل هي «صانعةٌ» للخبر و«تمظهره» على هواها.
كعادتهما، تنافست «الجزيرة» و«العربية» في نقل الخبر وإن تفوقت المحطة القطرية بعض الشيء في جذب الجمهور العربي المتعاطف مع القضية الفلسطينية من خلال استعمالها أسلوب نقلٍ متعاطفاً أقرب إلى الشارع العربي، بينما حافظت نظيرتها السعودية على وجهة نظر أصحابها ومموليها في المملكة، فتعاملت بقسوة بعض الشيء مع «مقاومي» حركة «حماس» واستبدلت كثيراً من المصطلحات التي من شأنها ـ بحسب اعتقادها ـ تحسين شكل الحركة الإسلامية.

«العربية»: خارج السرب/ داخل المملكة

تبدو «العربية» واحدةً من القنوات «الإخبارية» المحترفة في الشرق الأوسط، تمتلك مجموعةً متناسقة من المعدين والمقدّمين، فضلاً عن جهازٍ كبير من المراسلين، بالإضافة إلى معداتٍ تقنية بملايين الدولارات، إذا ما هي أزمتها؟ ما هي مشكلة القناة؟ لماذا لا تحظى ـ خارج الخليج العربي افتراضاً ـ بجمهورٍ واسع؟ لماذا تتعرّض للهجوم الدائم والكبير؟ حتى اللحظة، لم تحظ على نسبة مشاهدةٍ مرتفعة إلا في الأشهر الأولى للثورة السورية حين كانت تغطّي ما يحدث هناك بكامل قوتها. السبب يعود ببساطة إلى أن القناة الممولة بشكلٍ مباشر من الدولة الكبرى خليجياً، لا تحيد البتة عن آراء مملكة النفط، فوجود القناة أصلاً اعتبر رد فعل على وجود «الجزيرة» القطرية، وأسلوب السعوديين في إظهار أنهم لا يقلون شأناً عن أحد في الإعلام كما في السياسة.
لكن ماذا عن غزّة 2014 في سلوك القناة؟ في البداية، عنونت القناة الاعتداء الصهيوني على القطاع بعنوانٍ مبهم: «المواجهات المفتوحة في غزّة»، واستعملت تعبيراً أكثر أذى هو «قتلى» بدلاً من شهداء في توصيف الذين سقطوا ضحية العدوان الصهيوني، ولو حاول مراسلوها وخصوصاً زينة الروابدة (مراسلة القناة في غزة) الإشارة إلى أن ما يحدث هو عدوان، ولو بشكلٍ مبطّن. لكن إصرار القناة كان على تصوير «الدمار/ الضحايا/ الجثث/ الشهداء» أكثر من أي شيء، ضمن إطارٍ منهجي مدروس لتظهير أن ما يحدث هو جريمة لكن مع التركيز على دور «حماس» في ذلك ضمن معادلة: من نكأ عش الدبابير. مثلاً في برنامج «نهاية الأسبوع»، استقبلت مقدمة البرنامج ضيفها نبيل شعث عضو اللجنة المركزية في حركة «فتح». بعدما عرضت تقريراً مصوراً عما يحدث في غزّة، بادرته بسؤال مباشر: ماذا ستستفيد «حماس» أو ستخسر سياسياً مما يحدث؟! شعث الذي صدم بالسؤال، كان رد فعله عنيفاً بعض الشيء. قال لها بقدرٍ كبيرٍ من السخرية: «أنا فعلاً أغبطكم وأحسدكم على «حياديتكم» و«مهنيتكم» الإعلامية». المقدمة التي فوجئت بردة فعله، خصوصاً أنّها كانت تتوقع خلافها، بحكم الصراع القائم بين «فتح» و«حماس»، حاولت التملص من الموضوع عبر تأكيد أنّ القناة مع القضية وحقوق الشعب الفلسطيني ولكنها في النهاية قناة «إخبارية» يتحتم عليها الحديث في السياسة! في الإطار عينه، أبدت القناة نوعاً من «البلادة» المقصودة في التعامل مع الإخطار الذي أوردته «كتائب عز الدين القسام» بأنّها ستقصف تل أبيب عند التاسعة مساء أول من أمس. وبدلاً من أن تفعل كأي قناةٍ اخباريةٍ محترفة، بثت برنامجاً عن السينما في تلك الساعة، لكنها سرعان ما تنبهت للخطأ الكبير الذي وقعت فيه. عادت ونقلت الحدث وإن لونته كما تريد. عنونت بكل وقاحة: «إسرائيل سترد على مصادر القصف الصاروخي على تل أبيب»، متلافيةً بشكلٍ كامل الإشارة إلى حجم الحدث من الناحية السياسية والعسكرية وقيمته على الشارع العربي. هكذا وبهذه الطريقة تخسر «العربية» جمهورها العربي.

الجزيرة: الإخوان الإخوان

غطت «الجزيرة» العدوان على غزّة هذه المرة بشكل جيد، لكنّ كثيرين يشيرون إلى أنّها فعلت ذلك لأن «حماس» التي تمثّل جزءاً كبيراً من المقاومة هناك «محسوبة» بشكلٍ مباشر على تنظيم الإخوان المسلمين. لكن مهما كان السبب، يمكن اختصار الموقف وبسرعة: مراسلون متفرغون (تامر المسحال واياس كرّام في لحظةٍ واحدةٍ مثلاً عند إطلاق الصواريخ على تل أبيب عند الساعة التاسعة)، لغة خطابٍ مناسبة لمؤيدي المقاومة في الوطن العربي (شهداء بدلاً من قتلى، مقاومة بدلاً من مسلحين أو مقاتلين، الوحدات الصاروخية للمقاومة بدلاً من رشقات الصواريخ)، مقاربة سهلة مع الضيوف وتركهم يتحدثون في الشأن الفلسطيني بحرية.
تحاول القناة القطرية عبثاً العودة إلى مكانها الذي كانت عليه في بداية ما عرف باسم «الربيع العربي» يوم كانت القناة الأبرز عربياً والأكثر تأثيراً. غطّت مختلف الأحداث في الوطن العربي، وكانت تملك كل صفات الاحتراف التي مكّنتها من منافسة «سي. أن. أن» (أصل التقليد لديها) بل التفوق عليها حتّى (مثلاً في الحصول على مقابلة مع بن لادن بعد أحداث 11 أيلول). لكن خطيئة القناة الكبرى كانت «صنعها» للأحداث إبان الأزمة السورية. هي لم تكن تكتفي أبداً بنقل الخبر السوري فحسب بل كانت تفبركه أينما احتاجت ذلك. وكما يعرف الجميع، فإن سيطرة تنظيم الإخوان على الملف السوري في القناة جعله يدفع بالتغطية من شكلها العادي إلى شكلٍ آخر مختلف، فكان انحياز القناة المبالغ للإخوان المسلمين حتى هذه اللحظة (خصوصاً مثلاً في الشأنين السوري والمصري).

أبدت المحطة السعودية نوعاً من «البلادة» المقصودة في التعامل مع الإخطار الذي أوردته «كتائب عز الدين القسام»

وبالعودة إلى عدوان غزّة، فإن القناة لا تزال على نمطيتها في التعامل مع «الأعداء»، ولعلها أخطر في ذلك من «العربية». هي لا تزال تستضيف المتحدث باسم جيش العدو الصهيوني أفيخاي أدرعي فضلاً عن «المتحدثين» الصهاينة بشكلٍ منهجي رغم عدم حاجتها إلى ضيوف أو متحدثين كهؤلاء. هم لا يضيفون أي شيء على الأخبار سوى محاولة المحطة جعل المشاهد العربي يتقبّل هؤلاء «كشركاء»! المتحدث الصهيوني يستعمل كل التعابير «المسيئة» للمقاومة (ارهابيين، مدمرين، مخربين، صواريخ عبثية) وسواها، فضلاً عن أنّه يبتعد تماماً عن فكرة أنه «محتل»، ووجوده أصلاً قام على طرد السكان الأصليين لهذه البلاد، ومن هنا يكمن خطر ضيوفٍ كهؤلاء، وخصوصاً في أوقاتٍ مماثلة. المشاهد العربي الذي قد لا يتأثر بشكلٍ مباشر، قد يتأثر على المدى الطويل، فلغة خطاب هؤلاء الضيوف الصهاينة قد تصبح شيئاً من «المعتاد» مع الوقت. في المحصلة، سعت المحطتان الإخباريتان إلى «زئبقة» الحدث في غزّة كما تحتاجانه تماماً. «العربية» نجحت في تصوير الدمار والشهداء وصوّرت «حماس» على أنّها المعتدي على الصهاينة التي تتسبب بذلك على نفسها وعلى الشعب الفلسطيني في غزة. «الجزيرة» لم تصل إلى تلك المرحلة، لكنها أيضاً صورت تخاذل النظام المصري، مع بعض «التطبيل» الكثير لنظام الإخوان السابق وأنه لو لم يسقط، لما حدث ذلك (مع العلم أنّه حدث عدوان كبير على غزة إبان حكم الرئيس المعزول محمد مرسي) مع ترسيخ استقبال الأعداء بوصفهم «طرفاً» في نزاع قائم يحتمل وجهات نظر، وليس ضمن معادلة وجود احتلال وشعب يعاني الأمرين منه. أما عن الحرفية؟ فذلك أمرٌ آخر. الحرفية في العالم العربي مقياسها مدى استفادة الممول وصاحب القناة من بوقه الإعلامي. فـ «الجزيرة» كما «العربية» هما مشروعان رابحان إعلامياً، خاسران مادياً ولكن من يهتم بهذا والممول مسرور؟