البيت في بنشعي أشبه بكوخٍ خشبي كبير يختبئ في غابة من أشجار الشربين والأرز. شمس الواحدة بعد الظهر وحيدةً في السماء، تقضم الهواء البارد الآتي من ثلج جبال إهدن، وسليمان فرنجية يستقبل ضيوفه من الصحافيين يوم الجمعة الماضي، بابتسامته المعتادة.
دفءٌ من نار مدفأة الحطب في الداخل، ورائحة الخشب العتيق تختلط بكومة أكواز الصنوبر وحبات البلوط والليمون الحامض، المجمّعة في سلّة على طاولة الى يسار غرفة الاستقبال الوسيعة.
يلتفّ الضيوف حول طاولة أخرى الى يمين الغرفة، وينتقي نائب زغرتا مكانه بعدهم، مديراً ظهره إلى الشباك المنخفض المطلّ على الحديقة بطمأنينة تامّة. فرجال «البيك» موجودون في كلّ مكان في الخارج، حتى لا يأخذ أحدٌ سليمان فرنجية على حين غفلة، كما أُخذ والده طوني وأمه فيرا وشقيقته جيهان في بيت إهدن، قبل 30 عاماً.
هي أشبه بـ«دردشة» أو «ديوانية»، اختارها فرنجية للردّ على «الظلم الإعلامي» الذي طاله منذ اللقاء الباريسي مع الرئيس سعد الحريري في تشرين الثاني الماضي. يعرف أنه «لا رئيس للجمهورية الآن»، لكنّه لا يزال مرشّحاً... و«رجلاه على الأرض» بتواضعٍ وهدوءٍ، وانتقاءٍ للكلمات على ميزان «الغبار».
وصلت أصداء اللقاء إلى بيروت، قبل أن يعود فرنجية من باريس، فـ«مين سرّب الخبر؟»، «ما بعرف!» يردّ «البيك». بعد اللقاء، اتصل فرنجية من العاصمة الفرنسية ليبلغ حزب الله بفحوى اللقاء والورقة المكتوبة مع الحريري، والتزم بمشورة الحزب بأن يطلع عون عليها. سمع حليف حزب الله وسوريا من مرشّح فريق 8 آذار في الرابية: «إنت بعدك شاب والله يوفقك، بس أنا ما عندي خطة ب». ربّما لم يكن هناك فرق إن عرف رئيس تكتّل التغيير والاصلاح النائب ميشال عون باللقاء الثنائي من الإعلام، أو من فرنجية نفسه. للجنرال جواب جاهز على: «أنا مستعد إمشي معك قد ما بدك، بس إذا ما توافر الحظ إلك بترجع بتمشي معي؟»... «لا»، قالها عون، على طريقة الجنرالات... شعر فرنجية بأن اللقاء انتهى هنا، وردّ: «إن شاء الله ما تروّحها علينا وعليك».
«الهجوم» الإعلامي عليه من شخصيات وإعلاميين يُحسبون على فريق 8 آذار وإعلام التيار الوطني الحرّ، يترك عميق الأثر في وجدان الرجل. يبتسم من أسىً، «هذا لا يعكس جوّ حزب الله، لأنه كلّما اتسعت الدائرة تشتّتت الأفكار وابتعدت عن الحقيقة». يشرح المرشّح الرئاسي فكرته عائداً إلى زمن الحرب: «كنا صغاراً، ونظن أن كلّ من قطع حاجز المدفون ولم يمت فهو عميل للقوات اللبنانية، وفي الحقيقة لم تكن الحال كذلك... القادة يعرفون الحقيقة وبعض الجمهور يشتّته الإعلام... ومع ذلك جمهور فريقنا لم يتأثر، ويعرفون سليمان فرنجية جيّداً». لكنّ أعمق «الجراح» يتركه كلام الوزير السابق وئام وهّاب. «يمكن وئام مفكّرني من النوع اللي بيتخلّى عن حلفائه. أنا مش هيك، إذا وصلت للرئاسة بحفظ حلفائي وبحميهم، من طلال أرسلان لوئام للآخرين...».
ترنّ أقداح النبيذ، ويعود حفيد الرئيس سليمان فرنجية إلى اللجنة الأمنية المصغّرة التي شكّلها مع القوات اللبنانية قبل نحو سنتين، لتفادي الإشكالات في زغرتا والكورة، وضمّت الوزير يوسف سعادة عن المردة والنائب فادي كرم وطوني الشدياق عن القوات. يروي فرنجية كيف فاجأ الشدياق سعادة، من دون مقدّمات، بنيّة القوات دعم ترشيح فرنجية لرئاسة الجمهورية مقابل ثلاثة عناوين: حصول القوات على وزارة الداخلية، التعهّد بعدم وصول العميد شامل روكز إلى قيادة الجيش والمساعدة على فتح حوار مع حزب الله. في الأولى، كان ردّ فرنجية: «ما بعطيكم وزارة الداخلية لأنكم بدكم تنكّلوا بحلفائي إذا أخدتوها، بس إذا كانت من حصّة مسيحيي 14 آذار، بساعدكم لتاخدوها». الجواب على الطلب الثاني كان حاسماً أكثر: «ما بدكم تعطوا عون الرئاسة ولا بدكم تعطوه قائد جيش؟! لا هوّي بيقبل ولا أنا بمشي فيها». أمّا في الطلب الثالث، فأبدى فرنجية تعاوناً: «أساعدكم، ولكن هذا قرار الحزب».
رغم كثرة «الجثث» في البيت، لا دماء على يدي سليمان فرنجية

في الطريق من غرفة الاستقبال إلى مائدة الطعام، دبٌّ قطبي أبيض ممدّد كَفَرْوٍ هامد ورأس محنّط على الأرض. وفي الأعلى، دبٌ بنيّ ضخم معلّق على حائط الغرفة. وعلى الحيطان الأخرى أكثر من 13 رأساً محنّطة لغزلان وأيائل وماعز جبل، مع شرح عن كلّ منها والبلد الذي اصطادها فرنجية فيه، كرومانيا وكندا وأميركا، في مواسم الصيد المسموح، وبطلقة واحدة من عيار «7.62». ورغم كثرة «الجثث» في البيت، لا دماء على يدي سليمان فرنجية.
تشعّب الكلام على المائدة. يدحض فرنجية الحديث عن «النفط» وربطه بحضور رجل الأعمال جيلبير الشاغوري اللقاء الباريسي، وينسف كلّ ما قيل عن تعهّده بترؤس الحريري الحكومة لست سنوات طوال مدّة الولاية الرئاسية أو عن قانون الانتخاب. على ورقة فرنجية ــ الحريري ثلاث نقاط: فرنجية رئيساً للجمهورية، رئيس الحكومة من فريق 14 آذار على رأس حكومة وحدة وطنية، والتلاقي في منتصف الطريق. وسلاح المقاومة بالذات يختصر البند الأخير، فهو إيجاد نقطة تلاق للخلاف التقليدي بين دعم سلاح المقاومة وشتم سلاحها، بين الحفاظ عليه والتحريض عليه لنزعه. إلّا أن فرنجية كان واضحاً: لا تخلّي عن الرئيس بشار الأسد وحزب الله، ولا ضمانات حول السلاح، لأنه ببساطة: «إنت يا شيخ سعد فيك تشيل السلاح؟»، وجواب الحريري التلقائي طبعاً «لا». يضيف فرنجية: و«أنا كسليمان فرنجية إذا في قرار دولي وإقليمي بنزع السلاح فيي خلّيه؟ فأجاب الحريري بـ«لا»... «فإذاً، ما في لزوم نحكي بهالموضوع... إذا بتهاجم السلاح بدي دافع عنّو».
الخطاب (المنتظر مساء الجمعة) للأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله لم يغب عن بال الحاضرين. وكذلك حديث فرنجية الإيجابي عن الحريري. يقول إنه بات يتكلّم براحة مع رئيس تيار المستقبل، حتى إنه يدافع عن الرئيس الأسد أمامه، والحريري بدوره يطرح أفكاره وآراءه، بمسافة من الاحترام المتبادل، والاتفاق على ضرورة «صون البلد».
بالنسبة إلى فرنجية، «المنطقة كلّها تتغيّر وتتبدّل وتنغلق على تجمّعات مذهبية وطائفية. كيف نواجه هذا الأمر في لبنان؟ لا بدّ أن يطمئن الشركاء شركاءهم... مثلاً، كيف نحتضن طرابلس ونحصّنها؟». كيف يمكن أن يرى رئيس «المردة» قيام التحالف بين التيار الوطني الحر والقوات؟ «ربّما تذهب الأمور، على هذا النحو، إلى تحالف عوني ــ قواتي، أنا حريص على الجنرال عون وهو مرشّحي الأول ونحن حلفاء، لكن لا يعني التحالف العوني ــ القواتي أنه اختصار للمسيحيين... هناك أطراف أخرى ونحن موجودون وفاعلون، من الشمال إلى كسروان وأماكن أخرى».
لم يكن فرنجية قد سمع السيد نصرالله يقول عنه «نور عيني»، لكنّه كرّر مراراً «قناعتي ومبدئي المقاومة ولا أحد يزايد عليّ»، وأن «السيد كان على علم قبل الذهاب إلى باريس». الأرجح، أن حزب الله قبل لقاء باريس، لم يصدّق أن الحريري قد يرشّح فرنجية.
يشارف اللقاء على الانتهاء قرب المدفأة، ثمّ «حفلة» تصوير على الكنبة البيضاء الكبيرة كما أوصت السيدة ريما فرنجية، التي لم تكن حاضرة. هل تنسحب لمصلحة الجنرال عون؟ «حتى لو انسحبت أنا لعون، ما بيفيد، إلا إذا قدر يقنع سعد الحريري يصوّت معو. على كلّ حال، ما بنزل على جلسة ما بينزل عليها حزب الله، حتى لو كنت مرشحاً للرئاسة. رح ينتقدوني كتار على هيدا الموقف، بس هيك قناعتي».