على رغم يأْسها من إمكانية التأثير على موقف الولايات المتحدة بخصوص العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، تُواصل إسرائيل الدفْع بمسؤوليها، واحداً تلو الآخر، إلى واشنطن، بهدف إسْماع المسؤولين هناك شكواهم من التهديدات التي يستبطنها مشروع الاتفاق، الموصوف من قِبَل رئيس «الموساد»، آخر الحاجّين إلى أميركا، بـ«الكارثة الاستراتيجية». وإذ ستُحاول تل أبيب تفعيل عدّة خيارات، في مسعاها لتحصيل ضمانات من واشنطن، بأن الأخيرة لن تجلس مكتوفة اليدَين في مرحلة ما بعد الاتفاق، فهي تدرك أن كلّ تلك الخيارات تمّ تجريبها بالفعل، وآتت نتائج عكْسية، وهو ما يجلّي عمْق المأزق الإسرائيلي في مواجهة إيران، ويدْفع أصواتاً «معتدلة» إلى المطالبة بالقبول بالواقع. في هذا الوقت، تتقافز العقبات في طريق إحياء الاتفاق، من دون أن تعني تقهقهر حظوظه، على رغم تشديد طهران على أنه «من دون ضمانات، يظلّ الحديث عن صفقة بلا جدوى»
يتّجه رئيس «الموساد» الإسرائيلي، ديفيد برنياع، إلى واشنطن ليُسمِع شكواه مجلسَي الشيوخ والنوّاب الأميركيَّيْن، بخصوص نيّة إدارة الرئيس جو بايدن التوقيع على اتّفاق نووي جديد مع إيران، وصفه برنياع، في وقت سابق، بأنه «كارثة استراتيجية». الشكوى التي عُدّت «رفضاً إسرائيلياً بصوت خافت»، تَقرّر أن تدور مُجرياتها في الغرف المغلقة، في جلسة غير علنية أمام لجنة الاستخبارات التابعة لـ«الشيوخ»، وأيضاً تلك التابعة لـ«النواب». لكن هل يملك برنياع فرصة في ثنْي الإدارة عمّا تنويه؟ سؤال ينضمّ إلى آخر يكاد لا يفارق طاولة التقدير في تل أبيب، ومفاده هل يجري إحياء «خطّة العمل المشتركة الشاملة» بالفعل؟ بين الـ«نعم» والـ«لا» تتأرجح إسرائيل، فيما ثمّة شبْه إجماع على أن الاتفاق العتيد يتبلور بعيداً عن أروقة الكيان العبري، وأن قدرة الأخير محدودة على التأثير في سياقات توقيعه.
هنا، تَبرز إحدى أكبر مشاكل إسرائيل، وهي أن الحليف الأميركي يتحرّك وفقاً لمصالحه الخاصّة، بمعزل عن مدى تماثلها أو تقاربها مع ما تريده تل أبيب. وما يزيد الطين بلّة هو أن إسرائيل عاجزة، بقدراتها الذاتية، عن وقْف البرنامج النووي الإيراني، من دون رضى الراعي الأميركي وتمويله وتسليحه وتغطيته ورعايته الشاملة، الأمر الذي يجعل من الجهة التي تشتكي إليها تل أبيب، هي نفسها موضوع الشكوى. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن إسرائيل ترى أن إيران باتت طرفاً ندّاً في عملية بلورة الاتفاق، بما يكاد يكون موازياً لتموضع الولايات المتحدة، وهو ما يثقل على الأولى ويمنع عنها التقدير السليم، كما تَوقُّع المآلات كاملة. ذلك أن رغبة واشنطن في إحياء الصفقة النووية لا تكفي وحدها لتحديد ماهيّة هذه الصفقة، بل تَلزم أيضاً معاينة إرادة طهران التي يغريها «التلهّف» الأميركي بطرْح مزيد من المطالب والشروط. إزاء ذلك، يمكن تسجيل الآتي:
أوّلاً: سيكون على إسرائيل أن تمنع، بكلّ الوسائل المتاحة لديها، أن تتقدّم إيران في مسار القدرة النووية، والذي يشكّل تهديداً كامناً لها لا يمكنها التعايش معه؛ كونه يتيح لطهران، متى شاءت، أن تنتج سلاحاً نووياً، هو في ذاته تهديد وجودي للكيان. لكن كيف لتل أبيب أن تحول دون ذلك إن كانت لا تملك خياراً ذاتياً؟
ثانياً: على إسرائيل أن تعتمد، وفقاً للمحدِّد الأول، على الولايات المتحدة، التي تملك القدرة الفعلية على تحقيق مطلب المواجهة العسكرية مع إيران، بهدف منعها من امتلاك القدرة النووية العسكرية. لكنّ الولايات المتحدة لا تريد، ولا ترى من مصلحتها، سلوك خيارات متطرّفة ضدّ طهران، خصوصاً أن البيئة الدولية باتت غير مؤاتية كذلك.
بدأت تعلو أصوات في إسرائيل، بضرورة قبول الواقع، والتعويل على إمكانية تغييره عبر الزمن


ثالثاً: على إسرائيل أن تحثّ الولايات المتحدة على خنْق إيران اقتصادياً، الأمر الذي تَفترض أنه سيؤدّي إلى إحدى نتيجتَين: سقوط النظام الإيراني وبالتالي انتهاء التهديد النووي؛ أو استسلامه للإرادة الأميركية وإنهاؤه برنامجه النووي. لكنّ المعضلة أن واشنطن اعتمدت هذا الخيار طويلاً، بل وتطرّفت فيه أخيراً، وكانت النتيجة تضاعُف التهديد النووي الإيراني، واقترابه من حدود امتلاك السلاح النووي.
رابعاً: على إسرائيل أن تقنع الولايات المتحدة بأن التسوية مع إيران يجب أن تقترن بتهديد يُفهِم قادة الأخيرة أن فشل الاتفاق - كما تريده واشنطن وتل أبيب - سيؤدي إلى تفعيل الخيار العسكري الموجود على الطاولة. لكنّ الإشكالية أن لدى الإدارة الأميركية يقيناً بأن إيران لن تتنازل تحت هذا الضغط، وهو ما سيضع الأولى أمام استحقاق غير سهل، حيث سيكون عليها تنفيذ تهديدها، الأمر الذي لا ترغب به، فيما الامتناع عنه ستكون له انعكاسات غير مستحبّة على تموضعها الدولي وقدرتها الردعية.
خامساً: ستُراهن إسرائيل على التناقضات الداخلية في الولايات المتحدة، سواءً في مجلسَي الشيوخ والنواب، أو لدى الرأي العام، أو في أوساط المراكز والمؤسّسات التابعة للدولة العميقة، من أجل عرقلة إحياء الاتفاق أو على الأقلّ منْع تبلوره بالصورة التي تبحثها واشنطن وطهران حالياً. لكنّ العلّة أن هذا الخيار، هو الآخر، قد جُرِّب بالفعل، بل وتَحقّق لتل أبيب ما أرادته منه، عندما جرى تمزيق اتفاق عام 2015. لكنّ النتيجة كانت اقتراب إيران أكثر من السلاح النووي.
على خلفية ما تَقدّم، وبفعل محدودية الخيارات الذاتية إن لم يكن انتفاؤها في مواجهة إيران، بدأت تعلو أصوات في إسرائيل، بضرورة قبول الواقع، والتعويل على إمكانية تغييره عبر الزمن، مع البحث عن فرص كامنة في الاتفاق المتبلور. ومن بين هؤلاء، تَبرز شعبة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي، والتي تُراهن على عامل الوقت الذي تتيحه الصفقة النووية الجديدة، في ظلّ فقدان أيّ خيار عملي آخر. أمّا المعارضون، فيركّزون على التهديدات التي يستبطنها الاتفاق، والتي لن تكون، في ظلّ وجودها، لأيّ فرصة فائدة عملية. ويتصدّر صفوفَ المعارضين رئيس «الموساد»، ورئيس هيئة الأركان أفيف كوخافي، والكثير غيرهما. ومن هنا، تأتي زيارة برنياع وشهادته أمام الكونغرس، لكنّ السؤال، هل يحقّق الرجل ما عجزت عنه المؤسّسة السياسية والأمنية طوال الأشهر الماضية؟ وهل ستستمع الإدارة إلى شكوى برنياع، الذي هاجمها بقوة في الأيام الفائتة (أُعلن مساء أمس حدوث الاتصال بالفعل، فيما قال لابيد إنه جرت خلاله مناقشة الجهود المختلفة لمنع إيران من الوصول إلى السلاح النووي)؟ قد تكون الإجابات سهلة وواضحة، لكنّ الأهمّ هو ما لا يجري تداوله، وعنوانه: هل قرار توقيع الاتفاق موجود في واشنطن أم في طهران؟



بايدن للابيد: ملتزمون «أمن إسرائيل»
بعد انتظار طويل تخلّلته شكوك وتكهّنات مختلفة، جمع اتصال هاتفي الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد. وورد في بيان صادر عن مكتب الأخير أن الجانبَين بحثا عبر الهاتف مساء الأربعاء، الجهود المختلفة لوقف تقدُّم الجمهورية الإسلامية نحو السلاح النووي. كما ناقش «الزعيمان» آخر التطوّرات وأنشطة إيران «الإرهابية» في الشرق الأوسط وخارجه. وفي هذا السياق، هنّأ لابيد، بايدن، على الضربات الأميركية الأخيرة في سوريا. أيضاً، ناقش الطرفان تعزيز العلاقات «استمراراً لإعلان القدس»، وشدّدا على أهمية علاقتها الوثيقة، فيما جدّد بايدن «التزامه العميق بأمن دولة إسرائيل، والمحافظة على قدراتها ضدّ أيّ عدو وتهديد قريب أو بعيد».