لم ترسُ علاقة دول الغرب بوليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، على برٍّ بعد، على رغم التحسّن الذي طرأ عليها بعد قمّة جدة في تموز الماضي؛ وما انفكّت تثير الكثير من الأخذ والردّ. لكن الأكيد أن الغرب لا يثق بأن الأمير المتقلّب هو الشخص المناسب لقيادة المملكة ذات الأهميّة الاستراتيجية لمصالحه، وخاصّة أنه سيكون عليه أن يتعايش معه لسنوات، وربّما لعقود طويلة. فما إن لاحت بوادر إعادة إحياء الاتفاق النووي بين إيران والقوى الغربية، وعاد ابن سلمان إلى التلويح بالتحالف النفطي مع موسكو - الذي ثبت أنه الإجراء السعودي الأكثر إيلاماً لدول أوروبا على وجه الخصوص، في تاريخ العلاقات المشتركة -، حتى عاد الغرب إلى نبْش ملفّاته. وفي هذا الإطار، نشرت مجلّة «إيكونومست» البريطانية، قبل يومين، وثائقيّاً طويلاً وصفت فيه الأمير بأنه «أحد أخطر الأشخاص في العالم»، مستخدمةً لغةً عادة ما تُخصّص في الأدبيات الغربية لشخص مثل زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، أو غيره من القادة المناوئين للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وأعادت التذكير فيه بمقتل الصحافي جمال خاشقجي، وتقطيعه بالمنشار. وتضمّن الوثائقي مقتطفات جديدة من محادثات عبر واتسآب بين ابن سلمان والمعارض الفار، سعد الجبري، يحاول فيها الأوّل استدراج الأخير إلى السعودية لـ«احتواء» الخلاف مع عرّاب الجبري، وليّ العهد السابق محمد بن نايف. ويتّهم الجبري وليّ العهد بأنه كان يريد قتله أو إخفاءه، وأنه أرسل «فرقة النمر» إلى كندا لاغتياله، بعد نحو أسبوعين على جريمة قتل خاشقجي في إسطنبول عام 2018.عادةً ما لا تكون حملات الإعلام في الغرب ضدّ زعيم ما، مصادفة؛ فهو حارس أمين للمصالح الغربية، سواء اتّفق مع هذه الحكومة أو تلك، أو هذه الإدارة أو تلك. وفي الحالة السعودية بالذات، كان هذا الإعلام نفسه يغطّي الاستبداد طوال عشرات السنين. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم مقاربة «إيكونومست» لشخصيّة مثل ابن سلمان الذي كانت قد وصفته، في تقرير نشر في تموز الماضي، بـ«الطاغية في الصحراء». وعندما اعترض المقرّبون منه على التقرير المذكور، وكالوا الشتائم لكاتبه نيكولاس بيلهام، ردّت المجلّة بنشر الوثائقي الذي أعدّه الكاتب نفسه. وكذلك، ليس من النادر أن تختبئ الحكومات الغربية وراء حرية الصحافة لابتزاز الطغاة المدعومين منها، حين يتمرّدون عليها.
مع ذلك، فإن الصورة التي رسمتها المجلّة لابن سلمان، كحاكم مستبدّ وقاتل، صحيحة تماماً، وربّما هي أقلّ من واقعه. فهي لم تذهب إلى حدّ الإضاءة على مشاركة الرجل بيديه في التنكيل بالمعارضين. ولعلّ الرواية التي سردها مالك الدويش الذي أُخفي والده الداعية سليمان الدويش عام 2016، ثم اعتُقل شقيقه لأنه تجرّأ وسأل إن كان والده على قيد الحياة، قبل أن يُعتقل هو شخصياً في تموز الماضي للسبب نفسه، تسلّط الضوء على هذا الجانب الشخصي الذي ما كان حاكم ليضطر إليه، إلّا إذا كان يحمل «حقد الجِمال». فيقول مالك، في رسالة سجّلها قبيل اعتقاله، ووصلت إلى منظّمات سعودية لحقوق الإنسان، منها «داون»، إن والده اقتيد بعد القبض عليه إلى مكتب ابن سلمان حيث جعله مساعدو الأخير يجثو على ركبتيه، ليبدأ شخصياً في الاعتداء عليه، ولكْمه في صدره وحنجرته بينما كان يوبّخه، بسبب تغريدات حول تربية الأطفال، أُسيء تفسيرها على أنها انتقادات لابن سلمان في منافسته مع ابن نايف، مضيفاً إن والده نزف بغزارة من فمه حتى فقد وعيه. وتولّى عضوا «فرقة النمر»، ماهر المطرب ومشعل البستاني، تعذيب والده، بحسب الرواية، التي تفيد بأن السلطات السعودية أنكرت أولاً وجوده لديها، وقالت إنه ذهب إلى سوريا للقتال مع «داعش»، لكن العائلة كانت قد عثرت في موقع أمن الدولة على سجلّات تفيد بأن الداعية معتقل لدى السلطات، واتصلت بأحمد بن عبد العزيز، عم ابن سلمان، الذي كان نائباً لوزير الداخلية في حينه، فأكد لها وجوده في الحجز.
قسوة النظام خُصّصت لرجال الدين، وينال الوهابيون القسط الأكبر من الاضطهاد


هذا المستوى من التنكيل، يجعل نظام ابن سلمان حالة فريدة على مستوى العالم في البطش، وسحْق أيّ صوت معارض، مهما كان بسيطاً. لكن النتيجة كانت دفْع المزيد من السعوديين إلى الفرار من المملكة، إلى الدول الغربية، وتعزيز صفوف المعارضين هناك، وفق ما يؤكد المعارض عمر بن عبد العزيز، في بثّ على «يوتيوب»، مضيفاً إن لديه معلومات عن انهيار بعض مساعدي وليّ العهد نفسيّاً بسبب مشاركتهم في التعذيب والقتل، وإن المطرب الذي كان له دور في عملية قتل خاشقجي، لا ينفكّ يتناول المهدئات والمسكّنات، بينما نُقل عن مساعد آخر، هو جمال باحسين، قوله إنه يشعر بالذنب لأنهم أدخلوه على مطاوع سجين وطلبوا منه ضربه والاعتداء عليه، وهو لا يعرف ما هي تهمته.
لكن قسوة النظام في الآونة الأخيرة خُصّصت لرجال الدين. وينال القسط الأكبر من الاضطهاد، الوهابيون الذين يظهرون أيّ نوع من أنواع الانتقاد لعمل «هيئة الترفيه» برئاسة تركي آل الشيخ، وكذلك المشائخ ذوو الميول الإخوانية. وينبع ذلك من إدراك ابن سلمان أنهم الأكثر تأثيراً في المجتمع السعودي، والأكثر تهديداً لحكمه. والمثال الأحدث على ذلك، الحكم على إمام وخطيب المسجد الحرام في مكة، الشيخ صالح آل طالب، بالسجن عشر سنوات، عقب تداول مقطع صوتي له هاجم فيه انتشار الحفلات التي تقيمها «هيئة الترفيه»، وما يتخلّلها من اختلاط بين الرجال والنساء. والحملة على رجال الدين تأتي ضمن نهج اعتمده ابن سلمان منذ اليوم الأوّل لتولّيه ولاية العهد، بهدف تصفية كلّ مراكز القوى والإمساك بكامل السلطة، مبتدئاً بالأمن حين عزل ابن نايف الذي كان مسيطراً على الأجهزة الأمنية. ثم انتقل إلى عملية تحويل المجتمع السعودي، ولا سيما عنصر الشباب، نحو اللَبْرلة الاجتماعية، لا السياسية، وصولاً إلى إعادة تنظيم القضاء المتفرّع عن المؤسسة الدينية، فشنّ حملة اعتقالات شملت عدداً كبيراً من القضاة، حتى ممَّن كانوا طوع بنانه في إصدار الأحكام القاسية ضدّ المعارضين، ليستبدلهم بآخرين على قاعدة الولاء الشخصي، خوفاً من تأثيرهم. وهدفت تلك العملية إلى الإمساك بالقضاء من خلال محاكم الاستئناف، باعتبار أن عدد قضاة المحاكم الابتدائية كبير جداً ولا يمكن السيطرة عليه. وظهر ذلك في حالة آل طالب الذي كانت المحكمة الابتدائية قد برّأته، ثم نقضت محكمة الاستئناف الحكم ضدّه وقضت بسجنه عشر سنوات. وفي السياق نفسه، يأتي تقليص الحصص الدينية في المناهج الجديدة للمدارس التي أقرّت للعام الدراسي المقبل، إلى أقل من نصف ممّا كانت عليه في السنوات السابقة.
في المحصلة، يستفيد المعارضون السعوديون حالياً من عودة العلاقة بين المملكة ودول الغرب إلى التوتّر على خلفية الاقتراب من إحياء الاتفاق النووي بين الأخيرة وإيران، بعدما كانوا قد شعروا بالخذلان والتخلّي، عقب قمّة جدة، حين بدا أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، عقد صفقة مع ابن سلمان لزيادة إنتاج النفط، مقابل ترتيبات أمنية غربية - إسرائيلية لحماية النظام السعودي وحلفائه في الخليج.