بعدما فاجأ يائير لابيد الأوساط القيادية في إسرائيل بإيعازه إلى الجهات المعنيّة بإعداد لائحة إجراءات «انتقامية» يمكن اتّخاذها بحقّ روسيا، على خلفيّة قيام الأخيرة بتجميد نشاط «الوكالة اليهودية» على أراضيها، عادت تل أبيب لتُخفّض سقف اعتراضها، ساعيةً في احتواء التداعيات التي نجمت عن خطوة لابيد، الذي يبدو أنه أراد مخالفة «العُرف» المتّبع، أو أُخذ بقلّة خِبرته السياسية. وإذ يَظهر أن إسرائيل استوعبت «الدرْس» الروسي، فإن مستقبل العلاقة بينها وبين موسكو يظلّ رهُناً بسلوكها الكلامي والفعلي خلال المرحلة المقبلة، التي سيكون هامش المناورة والتذبذب فيها أكثر ضيقاً، الأمر الذي يفتح الباب على احتمالات تصعيد وتفجير، لم تَعُد في خانة المستحيلات
سريعاً، تراجَعت إسرائيل، على ما يبدو، عن استراتيجية «الندّ للندّ» التي كان بدأ رئيس الحكومة، يائير لابيد، التعامل بها مع روسيا، على خلفيّة قيام الأخيرة بتجميد أنشطة «الوكالة اليهودية» على أراضيها، إذ كان من شأن هذه الاستراتيجية، التي يمكن وصْفها - في الحدّ الأدنى - بالفاقدة للخبرة القيادية والدراية السياسية في العلاقات الخارجية، أنْ ضاعفت من تأثير الأزمة على إسرائيل، التي باتت مضطرّة لدفْع أثمان مضاعَفة من أجل احتوائها. ومن هنا، بدأت المواقف الصادرة عن تل أبيب تنحو في اتّجاه أكثر تواضعاً، بعدما أوعز لابيد بإعداد لائحة ردود قاسية وغير مسبوقة على موسكو، في خطوة بدت مثيرة للاستغراب، خصوصاً أنها تُنافي كلّ السياسات الإسرائيلية المتّبَعة في مراعاة روسيا، والتي ذهب الإعلام العبري إلى حدّ وصْفها بـ«الانبطاح» في العهود السابقة كافّة باستثناء عهد أريئيل شارون، من إيهود باراك إلى إيهود أولمرت ثمّ بنيامين نتنياهو ونفتالي بينت.
في خلْفية ذلك، يَظهر أن لدى إسرائيل، بالفعل، الكثير ممّا ستخسره في حال تفاقَمت الأزمة مع روسيا، وتحديداً في اتّجاهَين اثنَين: الأوّل مرتبط بـ«الحرب الدفاعية - الهجومية» التي تخوضها تل أبيب في مواجهة طهران وحلفائها في المنطقة، خاصة في الساحة السورية، حيث من شأن كفّ يدها أن يفاقم التهديد إلى ما لا يُقاس بما هو عليه الآن، علماً أن للجانب الروسي القدرة على منع «حرية العمل» الإسرائيلية في الأجواء السورية. أمّا الاتّجاه الثاني، فهو العلاقة الخاصة التي تربط إسرائيل بيهود روسيا، والذين تحقّ لهم وفقاً لـ«قانون العودة» الإسرائيلي الهجرة إلى الكيان العبري (يبلغ عِداد هؤلاء 600 ألف روسي مِمَّن لديهم أب أو أمّ أو جدّ أو جدّة من اليهود). في المقابل، تجني موسكو فوائد من العلاقة مع تل أبيب، على رأسها استثمار الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا في منْع إيران وحلفائها من تثبيت نفوذهم في هذا البلد، على حساب نفوذها هي، الأمر الذي يولّد تقاطع مصالح، يمكن أن يستحيل تعارُضاً في حال زادت تل أبيب جرعة اعتداءاتها. تُضاف إلى ما تَقدّم إمكانية «تحييد» إسرائيل - وإنْ نسبياً - في الصراع المحتدم بين روسيا والغرب على خلفية الحرب الأوكرانية، وكذلك الاستفادة من وجود الجالية الروسية الكبيرة في إسرائيل في أكثر من اتّجاه، إضافة إلى الفائدة التقنية والاقتصادية بوصْف الكيان العبري محطّة جالبة للتقنيات الغربية إلى روسيا.
ما لم تُخطئ تل أبيب التقدير، ستكون عليها مضاعفة حذرها في مقابل موسكو


بناءً على ما تَقدّم، تُفهَم حاجة الطرفَين إلى استرضاء أحدهما الآخر، والذي ظلّ سارياً إلى حين اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث بدأت الخلافات تطفو على السطح، وكان على إسرائيل أن تُثبت تموضعها إلى جانب أميركا، وأن لا تُغضب روسيا في الوقت نفسه، وهو ما دفعها إلى ابتداع نظرية الحياد وتقسيم الأدوار. هكذا، تولّى رئيس الحكومة السابق، نفتالي بينت، دور التملّق لروسيا، وتلبَّس لَبوس «شيخ الصلح»، ساعياً في التوسّط بين موسكو كييف، لا لأن لدى تل أبيب مقدرة على فعْل شيء لإيقاف الحرب، بل سعياً منها لتبرير موقفها المُراعي للجانب الروسي. في المقابل، أخذ رئيس الحكومة الحالي، وزير الخارجية في حينه، يائير لابيد، على عاتقه مهمّة تظهير الموقف المُمالئ لواشنطن وحلفائها، بانتقاده روسيا ومهاجمته رئيسها فلاديمير بوتين. وعلى هذه الخلفية، كانت القطيعة شبه الكاملة بعد أن تسلّم لابيد رئاسة الحكومة؛ فلا هو بادر إلى الاتّصال بالروس، ولا هُم أخذروا مبادرة مماثلة تجاهه، وكانت تلك إشارة بدء الأزمة، خصوصاً مع تزايُد الانتقادات في إسرائيل لروسيا، وقيام تل أبيب بإمداد كييف بمعونات لوجستية غير قتالية، إرضاءً لواشنطن.
بالنتيجة، كان على روسيا أن تردّ، وقد جاءت الفرصة الأنسب مع صعود لابيد إلى رئاسة الحكومة. أمّا الهدف الأوّل «المثالي» بالنسبة إلى موسكو، فتَمثّل في «الوكالة اليهودية»؛ على اعتبار أن اتّخاذ قرار بإيقاف أنشطتها يُعدّ بمثابة ردّ مدوٍّ في الوعي، من دون أن يكون مؤذياً من الناحية المادّية، علماً أن الأمور ما كانت لتنحو ربّما نحو الإقفال الفعلي، لولا التعاطي الإسرائيلي الذي رفَع الخطوة الروسية إلى مصاف المسألة الاستراتيجية، وهو الخطأ الثاني الذي وقع فيه لابيد والمحيطون به. وسواءً نُفّذ القرار الروسي أو جُمّد لاحقاً، فالنتيجة التي أرادتها روسيا، وهي «تأديب» إسرائيل، لا قطْع العلاقة معها، تَحقّقت لها عملياً، في ظلّ تَوقّعات بأن تُواصل تل أبيب مسارها «التراجُعي» إزاء موسكو. لكن هل يعني ذلك أن الأزمة في طريقها إلى الانتهاء؟ الأكيد أن الأمور لن تبْقى على حالها من التخادُم والمراعاة البَيْنية للمصالح، خاصّة مع تعمُّق الانقسامات على مستوى العالم. ومن هنا، تَبرز الكثير من التساؤلات حول المآلات والتداعيات، والحدّ الذي يمكن أن يَبلغه التصعيد. ومن بين تلك التساؤلات ما يتّصل بالتبعات المتوقّعة على ميزان القدرة والفعل في المنطقة بين إسرائيل وحلفائها من جهة، وإيران وحلفائها من جهة مقابلة، وتحديداً في الساحة السورية؟ سؤال يستأهل المتابعة والبحث، وإن كانت الإجابة المبدئية تشير إلى تداعيات غير محبَّبة بالنسبة إلى موسكو، تدْفعها إلى استمرار مراعاة المصالح الروسية في سوريا والإقليم، على رغم أن هذه المراعاة لا تمنعها، إلى الآن، من المبادرة، في إطار ما بات يمثّل نوعاً من قواعد الاشتباك.
في المحصّلة، يمكن القول إن إسرائيل أقرّت عملياً بـ«انكسارها» في مواجهة روسيا، وإن الأخيرة استطاعت «تأديبها»، وإرغامها على البحث عن مخرج يجنّبها مزيداً من الإحراج، بينما «تستمتع» هي بحشْرها في الزاوية. ومن الآن فصاعداً، ما لم تُخطئ تل أبيب التقدير، ستكون عليها مضاعفة حذرها في مقابل موسكو، وأن تكون أكثر حيادية بما يرتبط بمصالح روسيا إقليمياً ودولياً، في مجال الفعل لا الكلام فقط. وبناءً على سلوكها في هذا المجال تحديداً، سيتقرّر مستقبل العلاقة: إمّا استمرار التخادم، أو انفجار حادّ لا يُعلَم من الآن شكله وتبعاته.