الخرطوم | على رغم عودة الهدوء إلى ولايتَي كسلا والنيل الأزرق شرقيّ السودان وجنوب شرقيّه، إلّا أنه لا يُتوقّع انتهاء ارتدادات مسلسل العنف القبَلي المتنقّل قريباً، في ظلّ استمرار فشل السلطة الحالية في تطبيق «اتفاق جوبا للسلام»، مع ما يعنيه هذا من بقاء عوامل التفجير. وعلى رغم أهمّية هذه العوامل، إلّا أن ثمّة تفسيرات أخرى لما حدث وما يمكن أن يحدث، تذهب إلى أن للعسكر يداً في إذكاء التوتّرات، بعدما أعلن انسحابه من العمل السياسي، ودعوته الأحزاب السياسية والقوى الفاعلة إلى تشكيل حكومة مدنية، وذلك بهدف تصدير صورة من عدم الاستقرار، وتبرير عودة الجيش إلى إحكام قبضته على البلاد. ولعلّ ممّا يعزّز تلك التقديرات، هو اشتغال عبد الفتاح البرهان على تمكين قادته في مؤسّسات الدولة لتبْقى له اليد الطولى في الحُكم، ودعوة عدد من كبار قادة القوات المسلّحة، البرهان، إلى اتّخاذ خطوات حاسمة في اتّجاه فرْض حالة الطوارئ، وفق ما تكشفه مصادر لـ«الأخبار»
منذ انطلاق الفترة الانتقالية في السودان في عام 2019، وحتى انفراد المكوّن العسكري بحُكْم البلاد بعد انقلاب الـ25 من تشرين الأوّل الماضي، تتكرّر سيناريوات اشتعال الصراعات القبليّة في جميع المناطق السودانية، شرقاً وغرباً وجنوباً، فيما لم تسْلم العاصمة، الخرطوم، هي الأخرى، من مظاهر انفلات أمني، عزّزها غياب السلطات عن ضبْط عصابات النهب والسرقة، على رغم إعلانها «تفكيك خلايا إرهابية» تتبع لتنظيم «داعش» في أحد أحياء العاصمة، من دون النجاح في إلقاء القبض على أفرادها. ودائماً ما شهدت مدن القضارف وكسلا وبورتسودان (شرق) والجنينة (غرب) اقتتالاً ذا طابع قبلي، شكَّلت فيه قبيلة الفلاتة عنصراً رئيساً، غير أن مسلسل الأحداث انتقل، هذه المرّة، إلى ولاية النيل الأزرق الواقعة جنوب شرقي البلاد، حيث اندلعت في مدينتَي الدمازين والروصيرص، اشتباكات بين قبائل الفونج والهوسا، على إثر دعوة قبيلة الهمج إلى طرد «الهوسا» من الولاية، بوصف أبنائها «سكّاناً غير أصليين»، وذلك بعد مطالبة هذه الأخيرة بإقامة إمارة لها. اشتباكاتٌ راح ضحيّتها 79 شخصاً، فضلاً عن إصابة نحو 200 بجروح، ونزوح آلاف الأسر إلى المدن المجاورة شمالاً، فيما سُجّل إحجام السلطات عن التدخّل إلّا بعد مرور حوالى 72 ساعة على اندلاع أعمال العنف، حيث قرّر مجلس الأمن والدفاع إرسال قوات إضافيّة لإعادة الأمن. إلّا أنه سرعان ما انتقل الصراع إلى مدينة كسلا، التي شهدت أحداثاً أمنية على إثر مسيرات تضامنية مع «الهوسا»، أدّت إلى مقتل شخص وإصابة سبعة آخرين، في حين جرى حرْق مقارّ حكومة الولاية وعدد من المتاجر. وشهدت الخرطوم، أيضاً، خروج المئات من أبناء «الهوسا»، وهي من القبائل الأفريقية المشتركة في عدد من دول جوار السودان، للتنديد بالأحداث التي جرت في النيل الأزرق.
وقاد توقيت إشعال فتنة الاقتتال القبَلي في إقليمَي النيل الأزرق وكسلا، إلى الكثير من التكهّنات، لا سيما وأنه أتى في أعقاب إعلان رئيس «مجلس السيادة»، عبد الفتاح البرهان، انسحاب الجيش من العمل السياسي ودعوته الأحزاب السياسية والقوى الفاعلة إلى تشكيل حكومة مدنية، على أن يشرف مجلس أعلى للقوات المسلّحة بعد حلّ «السيادي» على قضايا الأمن. ويرى محلّلون أن الغرض من افتعال نزاعات قبَليّة في هذا التوقيت، هو إظهار أن الأوضاع الأمنية سيّئة ولا تمكن السيطرة عليها إلّا عبر حكومة عسكرية، وفرْض حالة طوارئ صارمة.
حثّ كبار قادة القوات المسلّحة البرهان، على اتخاذ خطوات حاسمة في اتّجاه إحكام قبضة الجيش على البلاد

وبحسب مصادر مطّلعة تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن البرهان، وهو قائد الجيش أيضاً، يسعى إلى تمكين قادة الجيش في الدولة عبر تعيين ولاة عسكريين في ولايات البلاد المختلفة، وهو قام، مطلع الشهر الحالي، بتعيين عدد من الخبراء العسكريين كسفراء في وزارة الخارجية، الأمر الذي يشير إلى أنه يراهن، في حال توافَقت القوى السياسية على تشكيل حكومة، على وجود عناصر تَدين بالولاء للمؤسّسة العسكرية، ويستطيع عبرها تمرير قرارات المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي سينشأ لاحقاً، وتالياً الإمساك بالملفّات الحسّاسة، وعلى رأسها ملفّ العلاقات الخارجية. وكان عدد من كبار قادة القوات المسلّحة حثّوا البرهان، لدى لقائه بهم في أعقاب زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركي مولي فيي للسودان، على اتّخاذ خطوات حاسمة في اتّجاه إحكام قبضة الجيش على البلاد وفرْض حالة الطوارئ، مستشهدين بما قام به الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر، وفقاً لِما يكشفه مصدر في الجيش لـ«الأخبار».
إزاء ذلك، يرى عضو «مجلس السيادة» السابق عن المكوّن المدني، محمد الفكي سليمان، أن تنقّل الصراع الإثني بصورة عنيفة من مدينة إلى أخرى، يوضح أن الأمر مخطّط له بدقّة، محذّراً، في تصريح إلى «الأخبار»، من أن «التلاعب باستقرار المواطنين سيؤدّي إلى حريق شامل في البلاد، ولن يترك وراءه أيّ مساحات صالحة للتنافس السياسي - المدني». ويَعتبر الفكي أن «الغرض من تأجيج الصراعات القبلية هو تدمير سلميّة الثورة ونقلها إلى مربّع العنف، حتّى يتمكّن العسكر من فرْض حالة الطوارئ»، مضيفاً أن الأقاليم السودانية هي التي تدفع ثمن الخلافات من دم أبنائها واستقرار أهلها، فيما أساس المشكلة «موجود في الخرطوم، حيث يدير أطراف الصراع (أعمال العنف) لتحقيق مكاسب سياسية». ويَلفت إلى أن طموح معظم السودانيين «تقلَّص من أن تقدّم لهم الدولة الخدمات، إلى أن تتركهم وشأنهم». ويرى أن «الحلّ معروف، ويتمثّل في إنهاء انقلاب تشرين الأوّل عبر تشكيل حكومة تكنوقراط وعودة الجيش إلى ثكناته، ومن ثمّ الترتيب لانتخابات في الأقاليم وتكوين حكومات محلّية منتخبة قبل الانتخابات المركزية، وإعطاء الأقاليم مساحات كبيرة للعمل». وعلى رغم ذلك السقف المرتفع، لا يَستبعد مراقبون أن يقود استمرار التوتّرات القبَليّة، إلى قبول بعض القوى السياسية بالتسوية خشية انهيار الدولة، فيما بدا لافتاً ارتفاع بعض الأصوات التي تطالب بعودة رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، باعتباره «القادر على إنقاذ البلاد من حافّة الهاوية وإعادتها إلى المنظومة الدولية»، مع أن هذا الخيار يظلّ مستبعداً.