ترك مرسوم العفو الأخير أثراً إيجابياً على الوضع السياسي في سوريا، مع إطلاق سراح مئات المعتقلين، وتسوية أوضاع مئات آخرين مِمَّن يعيشون في الخارج، وسط تأكيدات رسمية أن «لا مراجعات على الحدود للعائدين إلى البلاد». إلّا أن الآثار النفسية التي تولّدها تجربة الاعتقال عادةً لدى من يَخضعون لها، بما لا يمكن تجاوزه سريعاً، خصوصاً في ظلّ غياب أيّ عملية حقيقية لإعادة الاعتبار والحقوق، تجعل نوايا السلطة محطّ تشكيك دائم، وخطواتها مدار اتّهامات بالعمل على إعادة إنتاج نفسها، بدلاً من الاستجابة الإنسانية أو الاجتماعية أو السياسية المطلوبة، بحسب بعض المعارضين
يتناسب ارتفاع أسوار السجن طرْداً مع طول فترة بقاء المعتقل في الداخل. هناك، ينتظر المرء، طويلاً، ساعة سعْده، حين تنفتح الأبواب الحديدية العالية، وتنطلق به نحو حياة، غالباً، لم تَعُد كما ترَكها. يختلف السجين السياسي عن سجناء الجنايات، في أن «ذنبه» - مثلاً - غير مغفور لدى السلطة، أسوةً بهؤلاء. وبما أن «الناس أبناء دولتهم»، فإن المجتمع أيضاً يتفادى الخارجين من المعتقلات. في سوريا تحديداً، يجري الخلط بين سجين الرأي ومجرمي الإرهاب، باعتبار أنْ لا قوانين ناظمة تفصِل بين الاثنين بوضوح. أيّ مخالفة للرأي السائد تجمع معتنِقي أقصى اليسار مع متطرّفي اليمين، ليُحشروا معاً في بقعة مظلمة عفنة يتقاسمون داخلها الرطوبة وبقايا الأوكسيجين والأمل بالخروج. ويصعب هُنا الفصل كذلك، وسط التعتيم الدائم على هذا الملفّ، بين مرتكبي الجرائم بحق الناس، وبين مَن تعتبرهم السلطة أعداءها ومستفزّيها ومرتكِبي المخالفات بحقّها. أمّا الشعب، فهو يسقط رهينة حالة «شيزوفرينيا» قائمة على النفور من المعتقلين السياسيين، ما يمنع البعض من التعاطي معهم أو مخالطتهم أو مصاهرتهم حتى، على قاعدة أن هؤلاء ما زالوا تحت رقابة السلطة، ويجسّدون العداء معها، وهو ما لا ينقص المواطنين المنكوبين أصلاً بمتطلّبات الحياة والوضع المعيشي و«السُّترة».

المعتقَلات والتدمير النفسي
«متلازمة ما بعد السجن»؛ تسميةٌ تُطلَق على ما يصيب السجناء بعد إطلاق سراحهم، لناحية انزوائهم اجتماعياً بعد اصطدامهم بتجنُّب كثيرين لهم خوفاً من وضعهم الأمني، ولا سيما إن بقوا تحت المراقبة، الأمر الذي يصيب بعضهم بنوبات صرْع وفزع. أمّا معاودتهم العمل، فهي غالباً ما تستغرق الكثير من الوقت، بسبب موانع قانونية قاسية تتعلّق بكونهم قد أضْحوا محكومين، أيْ تَشوب سجلّهم العدلي نقطة الاعتقال، وهو ما لا يفضّله أصحاب الأعمال، ناهيك عن ما ينتاب السجين من ضعف ثقة بالنفس عند محاولته مزاولة أيّ مهنة أُخرى. وغالباً، فإن المعتقلين المُفرَج عنهم قد يتحوّلون إلى أشخاص آخرين إثر تجربة الاعتقال؛ إذ يعاني كثيرون منهم من مشكلات جديدة يلحظها ذووهم، كصعوبة إقامة علاقات اجتماعية والتردّد في اتّخاذ القرارات وتبلُّد المشاعر.
يَذكر عالم النفس الاجتماعي الأميركي، كريغ هاني، في تقريره عن الأثر النفسي للاعتقال على ضوء تجربة سجن ستانفورد، أن «هذه التجربة تُغيّر السجناء كلّياً، وتؤذيهم، ولا يَسْلم من أذاها إلّا القليلون»، فيما لا يَخفى أن المعتقلات في البلدان الغنية قائمة على جهود خبراء نفسيين، ممَّن يدرسون آليات العقاب وتأثيرها على النفس البشرية. وعند الحديث عن معتقل غوانتانامو مثلاً، تشير أصابع الاتهام إلى العالمَين النفسيَّين في القوات الجوّية الأميركية، جيمس ميتشل وبروس جيسين، اللذين أقاما برنامجاً خاصاً للتعذيب يطبَّق في معتقلات أميركية تقع خارج أراضي البلاد، أي خارج سيطرة القانون الأميركي الذي يجرّم التعذيب أثناء الاستجواب. وقد أنشأ العالِمان النفسيان المذكوران شركة استشارات تقدّم خدمات نفسية لوزارة الدفاع والأمن القومي، بما يخصّ تدريب الضباط والجنود على مهارات تتعلّق بالنجاة وعدم التأثُّر بالتعذيب ومقاومة أثره النفسي، والتهرُّب من أسئلة التحقيق، إضافة إلى التخطيط للهروب من الأسر.

مخاوف في الداخل والخارج
19 مرسوم عفو أصدرها الرئيس السوري، بشار الأسد، منذ بدء الأحداث الدموية التي شهدتها البلاد، آخرها كان في نهاية نيسان الفائت، ويقضي بمنح عفو عام عن الجرائم الإرهابية المرتكَبة من قِبَل السوريين قبل 30 نيسان 2022، عدا تلك التي أفضت إلى موت إنسان والمنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب. وبحسب معاون وزير العدل، القاضي نزار صدقني، فإن الجرائم التي يشملها القانون هي العمل مع مجموعات إرهابية أو تمويل أو تدريب إرهابيين أو تصنيع وسائل إرهاب وإخلال بالأمن، وهو ما أثار انتقادات الكثيرين من مواطني الداخل أو المحسوبين على الموالاة، باعتبار أن كلّ الجرائم المذكورة تُفضي حُكماً إلى موت إنسان. وعلى الرغم من حالة ارتياح سياسي أسهم الغرب ووسائل إعلامه في تعويمها، باعتبار العفو الأخير هو الأشمل، لأسباب تتعلّق بعدم خضوع بنوده لأيّ استثناءات تسمح لمُنفّذيه باستغلالها للإبقاء على السجناء السياسيين قيد الاعتقال، غير أن عدداً من اللاجئين في الخارج أعربوا عن تخوُّفهم من اتّخاذ الدول الأوروبية المرسوم ذريعة للتخلُّص من اللاجئين لديها وترحيلهم، بحجّة إحلال الأمان في الكثير من المناطق السورية، فيما ولّدت «خطوة الصفح» السورية، مخاوف أيضاً لدى الكثيرين مِمَّن تركوا البلاد على خلفية اعتقال سابق أو مَن لديهم ملفات أمنية جرّاء نشاط معارض خلال سنوات الحرب.
تتقاطع الكثير من الشهادات حول 300 شخص لا أكثر من المُفرَج عنهم


وزارة العدل السورية سارعت إلى إصدار بيان حول إلغائها البلاغات والإجراءات كافة، بما فيها التوقيفات وما يُسمّى «إذاعة بحث»، فضلاً عن الإجراء الأكثر شيوعاً وإثارة للرعب في العُرف الشعبي، وهو «المراجعة الأمنية»، بحقّ «جميع المواطنين في الداخل والخارج، ما لم يَثبت استمرار انتمائهم إلى تنظيمات إرهابية أو ارتباطهم مع دول أُخرى»، وفق ما جاء في البيان. وكبادرة «حسن نيّة»، جرى إطلاق سراح أكثر من 60 شخصاً، في اليوم التالي لإصدار مرسوم العفو، فيما تداول ناشطون لائحة تضمّنت 20 اسماً فقط، مقابل الحديث عن الإفراج عن 117 معتقلاً من سجن صيدنايا الشهير، وهم من مختلف المحافظات السورية. وتَرافق ذلك مع استنفار ذوي المعتقلين والمفقودين، الذين غصّ بهم شارع جسر الرئيس، وسط دمشق، أملاً في خروج أبنائهم أو أقلّه معرفة مصيرهم. أمّا تصريحات الرسميين الخاصة والمعلَنة، فقد بقيت تتحدّث عن إطلاق سراح آلاف المعتقلين، وهذا مبالَغ به طبعاً؛ إذ تتقاطع الكثير من الشهادات حول 300 شخص لا أكثر من المُفرَج عنهم، وهو الرقم المُصرَّح عنه مع بدء تنفيذ قانون العفو، قبل أن تصبح الإجابات عن التساؤلات كلّها في إطار: «ما زالت الملفّات قيد الدراسة»، وذلك متوقّع في ظلّ وجود حق عام، إضافة إلى الحقّ الشخصي. المواقع المعارضة، بدورها، وثّقت الإفراج عن 476 سجيناً، بينهم 55 سيدة، من أصل 132 ألف معتقل منذ عام 2011، بحسب بياناتها، فيما تفيد مصادر «الأخبار» بأن 400 اسم من إسبانيا وحدها طلب أصحابها إجراء تسوية وضع، وقد تمّت فعلاً. وتؤكّد معلومات حصلت عليها «الأخبار» من داخل وزارة العدل، أن «لا مراجعة على الحدود للعائدين إلى البلاد مِمَّن جرت تسوية أوضاعهم أو شملهم العفو»، على رغم تشكيك كثيرين في حقيقة تنفيذ القانون.

اعتبارات سياسية
لا يقرأ المعتقل السابق، فاتح جاموس، العفو الأخير، وما رافقه من إطلاق سراح بعض السجناء، سوى أنه خطوة في إطار تطبيع السلطة لعلاقاتها العربية، ولا سيما مع دولة الإمارات. وفي مِثل هذه العمليات العامة، بحسب جاموس، تحصل وقائع خاصة متعلّقة بمطالب محدّدة تخصّ سجناء بِعيْنهم، أو في إطار المقايضات. وبناءً على تجربة اعتقاله السياسي الطويلة، فإن «الكثير من حالات إطلاق سراح المعتقلين جاءت في إطار مصلحة السلطة وإعادة إنتاج نفسها، ولم تكن، ولو لمرّة واحدة، استجابة إنسانية أو اجتماعية أو سياسية». ويعلّق قائلاً: «نحن رفاق تجربة حزب العمل الشيوعي... لم يَصدر أيّ عفو خاص بنا منذ عقود، على الرغم من صدور قرارات عفو شملت مَن مارس الإرهاب أو انضمّ إلى صفوفه». ويتابع: «هناك مَن يعمل بحقد في المؤسّسات المسؤولة، على وضع صيغ قانونية واستثناءات كي لا تشملنا قرارات العفو». ومع ذلك، فإن جاموس يرى العفو إيجابياً، بقدْر ما يكون واسعاً وغير مشروط أو مرتهن للعقوبات المُلحَقة أو مشوَّشاً بتفاصيل أمنية ترهيبية. وعليه، فهو يعتقد أن العفو الخاص أكثر إيجابية، بما يشمله عادةً مِن إلغاء العقوبات الملحَقة، على مستويات الإعادة إلى العمل والتعويضات ودرجات الحرية الشخصية. وعلى رغم أن «العفو الأخير حرّك الجو السياسي العام إيجاباً»، إلّا أن «عدد المفرَج عنهم بسيط حتى الآن، بالمقارنة مع الأرقام الحقيقية للمعتقلين، وعدم توسّع الأمر نحو إعادة الاعتبار العميق والحقوق»، بحسب جاموس.
يفصل الرجل، الذي مرّ بتجربة اعتقال دامت 19 عاماً، بين معارضته السياسية وسنوات نضاله الطويلة، وبين المعارضة «الأصولية الفاشية» - وحلفائها الدوليين -، مقيّماً تجربته السياسية بالقول: «عملية اكتساب شرعية وجود وتأثير... أمر معقّد في بلد مثل سوريا يعاني وسط موجات من المدّ الديني والمذهبي والطائفي». وعلى رغم ابتعاده الدائم عن الأحقاد الشخصية، غير أنه يجيب عن أسئلة متعلّقة بالأثر النفسي للاعتقال، معتبراً أن أيّ اعتقال سياسي تقوم به أيّ سلطة تكون غايته تدمير الخصم، وليس إضعاف نشاطه فقط، مضيفاً أن «أشدّ أنواع الاعتقال قدرة على التدمير الذاتي للمعتقل والمجتمع على السواء هو ذاك الطويل الأمد المترافق مع نسيان مقصود أو غير مقصود من قِبَل السلطة، وهذا ما أدى إلى فقدان أكثر المعتقلين صلابة وتماسكاً نفسياً وعصبياً، أيّ أمل في إطلاق سراحهم». ويتابع جاموس بتأثّر: «ينتصب أمامك ذلك الجدار اللانهائي بارتفاعه وامتداده وامتناعه عن كشف أيّ بصيص نور أو أمل في إطلاق سراحك، ما يجعل التدمير يصل نحو سويّات مرضية». ويزيد: «كلّ معتقل رأي في ظروف النشاط السياسي السوري لديه لطخة تدمير لا شعورية، مهما بدت منضبطة بحُكم البنية الذاتية والقدرات التكيّفية». وإذ يَعتبر القمع السلطوي سبباً لإنتاج معارضات لا عقلانية وانتقامية بدورها، يلفت الرجُل إلى مشكلة ما زال يعاني منها بوصفه سجيناً سياسياً سابقاً، وهي بلوغه الخامسة والسبعين من عمره، من غير أن يتمكّن من التقاعد من نقابة المهندسين، بسبب عقوبات محكمة أمن الدولة العليا. وهكذا يمكن أن تكون المحاكمة العادلة للجميع، وفق بنود الدستور، الذي جرى توقيع العقد الاجتماعي للمواطنين من خلاله، هي الحلّ الذي لا يؤذي أحداً، غير أن تحقيقه لا يزال مستعصياً نسبياً.