في منتصف نيسان الماضي، عرض وزير المال يوسف خليل على مجلس الوزراء، ملفاً يتضمن استحقاقات قروض ميسّرة حصل عليها لبنان سابقاً واشتراكات في مؤسّسات وصناديق عربية ودولية، واقترح تسديد هذه المستحقات المتوجبة لغاية 31/3/2022 من حقوق السحب الخاصة. حصل ذلك بعدما رفض مصرف لبنان تسديد المستحقات مشترطاً أن يكون هناك عقد قرض بينه وبين الحكومة بالاستناد إلى المادة 91 من قانون النقد والتسليف التي تجيز له إقراض الحكومة وتسجيل الدين عليها بالعملات الأجنبية. يومها اقترح وزير المال يوسف الخليل، الذي شغل منصب مدير العمليات المالية في مصرف لبنان تسديد المستحقات البالغة 32 مليون دولار من حقوق السحب، لكن بعض الوزراء سجّلوا اعتراضهم على هذا الأمر، خصوصاً أن هناك صناديق متوقفة عن الدفع منذ فترة طويلة وأن المشاريع فيها الكثير من الهدر والفساد، كما أن عرض الملف على مجلس الوزراء أتى متأخّراً بعدما تلقى لبنان إنذاراً من البنك الدولي بوجوب التسديد بينما كان يجب أن يعرض استباقاً لهذه الدفعات، فضلاً عن أن الملف المعروض على المجلس تغيب عنه الكثير من التفاصيل.
أرشيف (هيثم الموسوي)

بناء على طلبات الوزراء، طلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من وزير المال عرض الملف بكل تفاصيله وإعداد جدول مفصّل بأسماء الصناديق والمنظّمات وقيمة المبالغ المستحقة وماذا نُفّذ منها لدراسة كل حالة بحالتها. كذلك، أقرّ مجلس الوزراء «الطلب إلى وزير المال إجراء مفاوضات مع الصناديق والمؤسّسات العربية والدولية بشأن إمكانية إعادة النظر بالمستحقّات والاشتراكات والطلب من الجهات المعنية عدم صرف أي أموال من حقوق السحب الخاصة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء» وفق ما ورد في محضر جلسة مجلس الوزراء الواقعة في 14 نيسان الماضي.
ماطل وزير المال في ما طُلب منه لغاية الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء التي عُقدت في 20 أيار. يومها أثير الموضوع مجدداً من دون أي تفاصيل عن المستحقات، إنما جرى الاتفاق على أن يتم منح وزارة المال سلفة خزينة بقيمة 966 مليار ليرة «لدفع مستحقات الدولة من القروض الخارجية (أصل وفوائد) والاشتراكات لصالح الصناديق والمؤسسات العربية والدولية». كذلك، تضمن قرار مجلس الوزراء إحالة «مشروع قانون يرمي إلى فتح اعتماد إضافي استثنائي في الموازنة العامة لعام 2022 قدره ألف مليار ليرة في باب وزارة المالية وإحالة مشروع القانون المذكور إلى مجلس النواب». كما أعيد تأكيد مضمون القرار السابق المتعلق بالطلب إلى وزير المال «إجراء مفاوضات مع الصناديق والمؤسسات العربية والدولية بشأن إمكانية إعادة النظر بالمستحقات والاشتراكات المتوجبة على لبنان».
ما حصل لاحقاً هو أمر مستغرب جداً. فالأموال التي أقرّها مجلس الوزراء، كانت مخصّصة لتسديد المستحقات على أن يتم شراء الدولارات من منصّة صيرفة لتحويلها إلى مستحقيها. وبالفعل أحالت وزارة المال مبلغ 966 مليار ليرة إلى حسابها في مصرف لبنان، لكن وزير المال تراجع عن الأمر وطلب من مصرف لبنان تسديد المستحقات من حقوق السحب الخاصة بسبب عدم قانونية فتح الاعتماد المذكور بالليرة اللبنانية. وبحسب مصادر مطلعة، فإنه في جلسة المجلس المركزي لمصرف لبنان التي عرض فيها طلب وزير المال، قيل أن الخليل لديه موافقة من رئيس الحكومة على استعمال حقوق السحب.

304 ملايين دولار

هي قيمة الأموال التي استعملت من حقوق السحب الخاصة منها 35.3 مليون دولار بلا قرار حكومي


يصعب التكهن هنا ما إذا كان خليل قد تناسى أن إبرام أي مبلغ من احتياطي الموازنة بحاجة إلى قانون في مجلس النواب، ولا سيما أن الأمر مذكور في متن مقررات مجلس الوزراء المنعقد بتاريخ 5/5/2022، أو أنه أراد القفز فوق هذا «التفصيل» لأن هذه الجلسة كانت الأخيرة قبل الانتخابات النيابية والاستقالة الحُكمية للحكومة. إذ إنه بعد الاستقالة، لن يعرض الأمر على مجلس الوزراء حيث يمكن أن يكرّر وزراء حزب الله اعتراضهم على الأمر.
واللافت أيضاً في هذه المسألة، أنه عندما عرضت رسالة الخليل المؤرّخة بتاريخ 26/5/2022، على المجلس المركزي المنعقد في الأول من حزيران الماضي، جرى نقاش بين سلامة وأهل مجلسه يتمحور حول عدم قانونية استعمال الـ966 مليار ليرة من دون صدور قانون في مجلس النواب، من أجل تبرير موافقتهم على استعمال حقوق السحب وكأنهم أصحاب سلطة في استعمال هذه الحقوق المحصور استعمالها بمجلس الوزراء. يومها قال سلامة إن الخليل استحصل على موافقة ميقاتي. وبعد الجلسة أرسل كتاب ردّ لوزير المال يتضمن أمراً غريباً أيضاً: «الموافقة على طلب وزير المالية دفع مبلغ 35.5 مليون دولار أميركي من حقوق السحب الخاصة وذلك لتسديد قروض خارجية مستحقة» وفق ما ورد في الرسالة المؤرخّة بتاريخ 10 حزيران 2022.
المجلس المركزي، وعلى رأسه سلامة يعتبر أن استعمال حقوق السحب هي صلاحية تخصّه، وأنه هو من يوافق على ذلك أو يرفض، فضلاً عن أن ينصّب نفسه قاضياً ويناقش مدى قانونية الاعتمادات الاستثنائية المرسلة من الوزارة إلى حسابها في مصرف لبنان، كما أنه هو من يقرّر إذا كان كتاب الخليل، وموافقة ميقاتي على استعمال حقوق السحب، هي أيضاً صلاحية تعود لرئيس مجلس الوزراء ووزير المال منفردين.
الأنكى من ذلك كلّه، أنه منذ موافقة المجلس المركزي، مضت 12 يوماً من دون أن تصل أي أموال إلى المؤسّسات والصناديق. وتبيّن أن الجهة الوحيدة التي سدّدت مستحقاتها هي البنك الدولي ربطاً بملف الاقتراض من أجل تمويل استيراد الغاز من مصر واستجرار الكهرباء من الأردن. وبحسب المصادر، فإن كل الصناديق أنذرت لبنان بأنها ستعلّق العلاقة معه إذا لم يسدّد، حتى أنها لم تردّ على الرسائل التي أرسلها الخليل قبل نحو ثلاثة أسابيع طالباً إعادة جدولة القروض والمستحقات. وقد علّق بالفعل عدد من الصناديق العمل مع لبنان.

لا قرار مركزياً اليوم في الدولة بل هناك تفرّد لتسليم الصلاحيات لحاكم مشتبه فيه محلياً وخارجياً بتبييض الأموال والاختلاس


المشكلة هنا لا تتعلق بانعكاسات توقف الصناديق عن التعاون مع لبنان، فرغم المقاطعة الخليجية والغربية للبنان، إلا أن هذه المؤسّسات لم توقف تعاونها مع الدولة اللبنانية، بل أكملت بهامش بعيد نسبياً من الحسابات السياسية. كما أن الأمر لا يتعلق أيضاً بضرورة الحفاظ على علاقة لبنان مع الصندوق الكويتي والسعودي والبنك الإسلامي والياباني ومؤسّسات الاتحاد الأوروبي نتيجة التخلّف عن الدفع، بينما ثمة مشاريع ملحّة ما زالت قيد التنفيذ، بل تتعلق بطريقة إدارة الحكومة أو رئيس الحكومة، لكل أنواع الأزمات، سواء المتصلة بالعلاقات الخارجية أو المالية أو الاجتماعية. عملياً، لا قرار مركزياً اليوم في الدولة لاتخاذ القرارات، بل هناك تفرّد في القرارات التي يسلّم فيها لبنان لحاكم مشتبه فيه محلياً وخارجياً بتبييض الأموال والاختلاس. تفرّد الرئيس نجيب ميقاتي كان عملاً باطنياً بلا العودة إلى مراجعة بقية المسؤولين. ميقاتي يجيز لنفسه المسّ بحقوق السحب رغم قرار مجلس الوزراء الواضح بعرض الأمر على مجلس الوزراء في حال استخدامها، مثله مثل وزير المال أو بالتواطؤ بينهما وبين حاكم مصرف لبنان. والسؤال اليوم من يضمن ألا يبدد ميقاتي وخليل وسلامة وغيرهم حقوق السحب الخاصة لغايات يزعمون أنها «ملحّة»، ولا سيما أن سلامة وحده بدّد أكثر من 21 مليار دولار من الاحتياطات بالعملات الأجنبية. على هذا المنوال ستطير حقوق السحب الخاصة سريعاً، إن لم تكن طارت أصلاً!