سبعة أشهر مرّت على قرار محكمة الاستئناف في بيروت، بكفّ يد المحقق العدلي في ملف انفجار المرفأ القاضي طارق البيطار عن التحقيق. القضية مُعلّقة، لكنها تحوّلت إلى «فرس رهان» في صراعات أهل السلطة. فيما القضاء الذي طالب بالتحرر من سطوة «المنظومة»، لجأ إلى «حصانة» القناصل والسفراء، والنتيجة حرف التحقيق عن مجراه لاستخدامه في الصراع السياسي - القضائي، ما أدى إلى وقف كامل لكل الدعاوى القضائية المُرتبطة بالتحقيق، وتعذُّر - بل شبه استحالة - البتّ فيها، والحصيلة واحدة: لا قرار ظنياً حتى اليوم. لا مُحاكمات. لا تعويضات. لكن الأكثر خطورة يبقى ملف الموقوفين على «ذمّة التحقيق» الذين تحولوا إلى رهائن مُحتجزين يدفعون ثمناً مزدوجاً لتعطيل التحقيق واستنسابية القضاة.يجمع المتابعون للملف ملاحظات ووقائع قادَت إلى كل «التخبيص» السياسي والقضائي في الملف:
أولاً، جرى استخدام كل وسائل الضغط الداخلية والخارجية، إعلامياً وسياسياً وقضائياً وشعبياً، في إطار تعبئة عالية جعلت من أيّ اعتراض على الملف بمثابة جرم أخلاقي.
ثانياً، تبيّن أن أهل المنظومة الحاكمة لا يُمانعون استحضار المخزون السياسي، ببعده الطائفي، من أجل الدفاع عن مواقعهم. وتماهى معهم أهل القضاء، فلم يكتفوا بتسييس الملف بل أمعنوا في تطييفه، إلى درجة تحويل انفجار مرفأ بيروت إلى «قضية مسيحية» جرى استثمارها في الانتخابات النيابية، ولا تزال قابلة للاستثمار في استحقاقات أخرى مهما كلّف الأمر من خسائر ارتدادية.

(هيثم الموسوي)

ثالثاً، حظيَ القضاة المعنيون بالقضية، بدعم دولي استثنائي. فرسموا لأنفسهم خطاً أحمر سمحَ لهم بارتكاب تجاوزات.
رابعاً، تحوّل كلّ من القاضي البيطار ورئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود إلى إلهين يمنع المسّ بهما. الأول اعتبر نفسه «رسولاً مُخلصاً» (هكذا قال صراحة أمام أهالي الضحايا وأهالي الموقوفين). والثاني عمل على تقسيم العدلية طائفياً، حتى خلال إرسال الدعاوى التي رُفعت ضد المحقق العدلي، حيث كانَ يُودِعها غالباً لدى قضاة من طائفة معينة، وجميعهم امتنعوا، تحت الضغط الشعبي والدولي، من البتّ في أي دعوى تخصّ البيطار. الكلام كلام القضاة في «العدلية» نفسها، التي زادت في عهد عبّود فوق تسييسها تطييفاً.
خامساً، لم يتوانَ البيطار، الطفل المدلّل لـ«العدالة الدولية» عن التعامل باستنسابية في التوقيفات والادّعاءات، ليسَ على مستوى المسؤولين السياسيين، بل حتى الإداريين والأمنيين. ولم يتأخر، كما سلفه القاضي فادي صوان، عن مراعاة الخصوصية الطائفية في التوقيفات على قاعدة 6 و6 مكرّر، وإطلاق سبيل عدد منهم بطلب من مرجعيات سياسية وروحية، علماً أن المُفرج عنهم هم، وفقَ ترتيب المواقع، يتحملون مسؤولية أكبر من بعض من زال مُحتجزاً. فضلاً عن استبعاد المراجع الأمنية والعسكرية عن التحقيق مع أن الأجهزة هي الأكثر سلطة داخل المرفأ.
هذه الملاحظات جزء من مشهد عام حاصر قضية بحجم انفجار مرفأ بيروت، لكنها مدخل ضروري لسؤال مُلحّ يتعلّق بمصير الموقوفين الذين تقدّم بعضهم بدعاوى أمام محكمة التمييز يطلبون فيها ردّ المحقق العدلي وتعيين بديل عنه، لتعذّر استكمال التحقيق. وسبب التعذر وجود دعاوى مخاصمة وارتياب لدى الهيئة العامة لمحكمة التمييز، لا تستطيع البت فيها بسبب عدم توافر النصاب. فقرار تعيين رؤساء أصيلين لمحاكم التمييز (القضاة: ناجي عيد، ماجد مزيحم، سانيا نصر، أيمن عويدات، حبيب رزق الله ومنيف بركات) الصادر عن مجلس القضاء الأعلى منذ شباط الماضي والذي وقّعه وزير العدل هنري خوري، لا يزال وزير المالية يوسف خليل يمتنع عن توقيعه بسبب «الميثاقية» إذ إن «مرسوم التعيينات الحالي للهيئة العامة أخلّ بهذا التوازن» وفقَ ما يدّعي المعترضون عليه.
وبما أن المرسوم غير قابل للتوقيع، ما يعني استحالة البتّ في مصير المحقق العدلي، وبالتالي إطالة بقاء الموقوفين في السجن، لا بدّ من السؤال عن مخرج قانوني آخر. وفي هذا الإطار، يقول وزير العدل إن الحلّ الوحيد هو «البتّ في الطلبات المقدّمة أمام محاكم التمييز لنقل الدعوى من البيطار ليسَ اعتراضاً عليه، وإنما لتعذّر استكمال التحقيق معه بسبب العناد المتبادل»، وهذه الطلبات التي أرسلها عبود إلى غرف يترأسها كل من القاضييْن جمال خوري وسهيل الحركة، «تأخذ وقتها بسبب الإجراءات والتبليغات» كما يقول خوري. لكن هل هذا الأمر مُمِكن؟ قانوناً، نصّ قانون أصول المحاكمات المدنية في المادة 129 على أنه «إذا أدّى طلب الردّ أو طلبات الرد المتعدّدة إلى تعذّر تأليف هيئة المحكمة طُبقت أحكام نقل الدعوى»، كذلك في المادة 340 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تقول بأن «تتولّى إحدى الغرف الجزائية لدى محكمة التمييز مهمة الفصل في طلب نقل الدعوى من مرجع قضائي إلى آخر. تقرّر رفع يد مرجع قضائي في التحقيق أو الحكم عن الدعوى وتحيلها إلى مرجع آخر من الدرجة نفسها لمتابعة النظر فيها إما لتعذّر تشكيل المرجع المختصّ أصلاً أو لوقف سير التحقيق أو المحاكمة أو للمحافظة على السلامة العامة وسير العدالة».
حظيَ القضاة المعنيون بالقضية بدعم دولي استثنائي سمحَ لهم بارتكاب تجاوزات


لكن «ما فائدة العدل في ما يُسمى القانون، إِذا لم نأمَن الميل الشخصي عند من يُسمى القاضي»؟ وهنا الطامّة الكبرى. فالمشكلة هي في القضاة الذين يجِب أن يبتّوا في طلبات نقل الدعوى من يد القاضي البيطار، حيث أثبَتت التجارب السابقة أنهم «يتهيّبون» الموقف ولا يتجرّأون على المسّ بالمحقق العدلي، بعدما باتَ الإعلام والرأي العام هما من يتحكّمان بعمل القضاء. والمُعضلة الكُبرى، أنه حتى لو وافقَ أحد القضاة على نقل الدعوى، فحينها يتعيّن على وزير العدل طرح اسم بديل يحتاج إلى موافقة مجلس القضاء الأعلى، وهنا نكون عدنا إلى مربّع رأس «المتاعب»، أي القاضي سهيل عبّود، الذي كانَ رأس حربة الدفاع عن البيطار مغطياً كلّ تجاوزاته، وهو من فرض حالة من الترهيب على القضاة حتى لا يتجرّأ أحد منهم على أخذ قرار «إدانة» بحق المحقق العدلي، ولا يسمَح باتخاذ أي قرار في مجلس القضاء لا يُرضيه. فهل سيوافق عبّود على نقل الدعوى إلى محقّق جديد أم سيُصرّ على «تجميد» الملف، فيبقى الموقوفون في سجنهم إلى أن يقضي الله أمراً كانَ مفعولاً؟
بالمناسبة، يعترف عبّود كما البيطار وكل القوى السياسية التي اجتمعت بأهالي الموقوفين «بمظلومية» أبنائهم. فإذا كانَ فعلاً هؤلاء مظلومين وموقوفين اعتباطياً فلماذا لا يُخلى سبيلهم؟ وإذا كانوا مُذنبين فلهم الحق أقلّه في المحاكمة، خاصة أنهم أمضوا ما يقارب العامين حتى الآن، وقد تكون أكثر من العقوبة التي قد تنزل في بعضهم في حال ثبتت إدانته.



حالات انهيار وأوضاع نفسية وصحية سيئة
يتوزّع الموقوفون في ملف انفجار مرفأ بيروت على مراكز توقيف عدة في بيروت وخارجها. ومع أن بعضهم حظيَ بتوصية سياسية ونُقل إلى مراكز «مؤهّلة»، بقي آخرون محتجزين في غرف تحت الأرض وفي ظروف قاسية، لكن في الحالتين، هم ليسوا بكامل حريتهم. وقد أنعكسَ ذلك سلباً على وضعهم الصحي والنفسي، ونُقِل عدد منهم أكثر من مرة إلى المستشفيات، فضلاً عن تأثير توقيفهم على وضع عائلاتهم وأولادهم مادياً ومعنوياً، إذ إن عدداً منهم هم المعيلون الوحيدون لعائلاتهم. لا يطالب الموقوفون بأكثر من المحاكمة وفقَ الوقائع التي باتَت في حوزة القضاء أو إخلاء السبيل، إذ لا يُمكن أن يستمر الاحتجاز الاعتباطي ظلماً بهذا الشكل. أما الأهالي الذين ضاعوا بينَ وعود السياسيين الذين «طالبوا بالانتظار إلى ما بعد الانتخابات»، أو اعتذروا لأن «ما طالع بإيدهم شي»، فلا يتوقفون عن الحديث عن معاناتهم اليومية التي «لن يفهمها قضاة أصبحوا يتمتعون بحوافز داخلية وخارجية بسبب هذه القضية ولا سياسيون تجدّدت حصانتهم وما عاد الملف مصدر قلق لهم» كما يقول الأهالي.
بكل الأحوال، لم يعُد جائزاً الإبقاء على هؤلاء محتجزين كرهائن للصراع بين السلطة والقضاء، والكل متورّط اليوم في بقائهم في السجون ومسؤول عمّا يُمكن أن يحصل لأيّ منهم. فالعدل البطيء أيضاً ظلم والعدالة المتأخرة ليست بعدالة.


التوقيفات والإخلاءات
بدأت توقيفات المُشتبه فيهم والمدّعى عليهم بين آب 2020 وأيلول 2021، وقد بلغت 27 شخصاً. 17 منهم أصدر المحقق العدلي السابق القاضي فادي صوّان مذكرات توقيفهم، وهم: متعهّد ورشة التلحيم والموظفين فيها سليم شبلي وأحمد رجب ورائد الأحمد وخضر الأحمد، مدير العمليات في مرفأ بيروت المهندس سامر رعد، المدير العام السابق للجمارك شفيق مرعي، المدير الحالي بدري ضاهر، المدير العام لمرفأ بيروت حسن قريطم، رئيس دائرة المانيفست نعمة البركس، رئيس مصلحة المرفأ والمدير الإقليمي فيه بالإنابة حنا فارس، رئيس مصلحة البضائع في إدارة العمليات المهندس مصطفى فرشوخ، رئيس المشاريع ميشال نحول، رئيس مصلحة الأمن والسلامة بالتكليف زياد العوف، المدير العام لوزارة النقل عبد الحفيظ القيسي، رئيس الميناء في المرفأ محمد المولى، العميد في مخابرات الجيش أنطوان سلوم. وقد أُطلق سراح البعض وتم توقيف آخرين، وبقي منهم حتى اليوم 19 موقوفاً. أما البيطار، فقد أوقف شخصين، هما عضو المجلس الأعلى للجمارك ومدير إقليم بيروت السابق في الجمارك هاني الحاج شحادة، ومدير العمليات السابق في المرفأ سامي حسين. ثم أخلى سبيل 7 موقوفين، هم: الكاتب لدى دائرة المانيفست والمسؤول عن الجردة مخايل المر، السائق جوني جرجس، الرقيب أول في الجمارك خالد الخطيب والرقيب أول في الجمارك الياس شاهين، الرائد في جهاز أمن الدولة جوزيف النداف والرائد في الأمن العام شربل فواز، كما أخلى سبيل كل من المهندسة المشرفة على أعمال الصيانة نايلة الحاج والرائد في الأمن العام داود فياض وأمين مستودع العنبر الرقم 14 في المرفأ وجدي قرقفي.