على رغم تأكيد بكين، باستمرار، إفساحها المجال أمام عمل المنظّمات غير الحكومية التي بلغ عددها بحلول عام 2020 أكثر من 500 منظّمة مسجّلة في الحكومة وفقاً لـ«قانون إدارة أنشطة المنظّمات غير الحكومية من وراء البحار»، إلّا أنّ التوتّرات تكاد لا تنقطع ما بين هذه الجمعيات والحكومة الصينية، التي تتّهم عدداً منها بالسعي إلى «التخريب تحت ستار الديموقراطية وحقوق الإنسان». وتنشط الكيانات غير الحكومية المموَّلة من الغرب في المناطق «الحسّاسة» من الصين بشكل خاص، والتي تستهدفها الدعاية الغربية بشراسة، على غرار إقليم تشينغيانغ حيث تُتّهم بكين بـ«اضطهاد أقلية الإيغور المسلمة»، أو هونغ كونغ والتّبت حيث تَبرز قوى انفصالية ومعادية للدولة. وتُراوح الاتهامات التي تتعرّض لها تلك المنظّمات ما بين إنشاء شبكة مراقبة تغطّي الخطوط الساحلية في البلاد، بالقرب من أهداف عسكرية صينية، وصولاً إلى استغلال فيروس ما أو حدث رياضي على غرار الأولمبياد، سياسياً، لتأجيج مشاعر العداء تجاه الصين.
«NED»
في أيار الماضي، نشرت وزارة الخارجية الصينية تقريراً بعنوان «ورقة حقائق عن (الوقف الوطني للديموقراطية) أو (NED)»، وهي مؤسّسة أميركية غير ربحية، ساهمت، بحسب التقرير، خلال العقود الماضية، في التحريض على الثورات الملوَّنة وتمويل المنظّمات غير الحكومية وتغيير الأنظمة في عدّة بلدان حول العالم، ومن ضمنها الصين. يلفت التقرير إلى أنه لطالما حاولت «NED» استهداف الصين من خلال التحريض على «استقلال هونغ كونغ» و«استقلال إقليم تشينغيانغ» و«استقلال التّبت»، وهي موّلت مختلف المنظمات التي تُعنى بـ«استقلال شينجيانغ»، كما قدّمت مساعدات بقيمة 8.7583 مليون دولار أميركي لـ«منظّمات الإيغور» بين عامَي 2004 و2020. وفي عام 2020 وحده، تلقّت الجهات الداعمة لـ«استقلال تشينغيانغ»، من «NED»، حوالى 1.24 مليون دولار، تمّ توجيه الجزء الأكبر منها إلى منظّمات على غرار «مؤتمر الإيغور العالمي» (WUC). وكان رئيس المنظّمة، كارل غيرشمان، دعا، علناً، إلى إشعال «ثورة ملوّنة في الصين»، وتغيير النظام لتصبح البلاد «جمهورية فيدرالية».
كذلك، تُقيم «NED» علاقات وثيقة مع قوى «استقلال التّبت»، والتي ظلّت على تواصل معها منذ عام 2010، حين قدّم غيرشمان «ميدالية خدمة الديموقراطية» للقائد الديني الأعلى للبوذيين التبتيّين، الدالاي لاما. كما حضر غيرشمان حدث «الأمل والديموقراطية» الذي استضافه الدالاي لاما عام 2016، واحتفل بعيد ميلاده الخامس والثمانين، مشيداً بأنشطته في سبيل «استقلال التّبت» في عام 2020. وتحت شعارات «حقوق العمال» و«الإصلاح السياسي» و«مراقبة حقوق الإنسان»، حرّضت «NED» على جميع التظاهرات في هونغ كونغ تقريباً. ووفقاً لبحث مستندٍ إلى الموقع الرسمي للمؤسسة، أجرته وكالة تُعنى بتحليل الرأي العام في الإقليم «Hong Kong Insights»، فإن «NED» تُموّل، منذ عام 1994، منظّمات المعارضة ومجموعات الحركة الطلابية ووسائل الإعلام في هونغ كونغ، على غرار «اتحاد نقابات عمال هونغ كونغ»، والذي ساهم في اندلاع الاحتجاجات.
بالإضافة إلى ذلك، كان للمؤسّسة يد في تسييس أصول «COVID-19»؛ إذ روّجت «جمعية الإيغور الأميركية» المُموَّلة من «NED» والشركات التابعة لها باستمرار لنظريات المؤامرة اليمينية حول الفيروس، ما ساهم في تأجيج مشاعر الكراهية تجاه المواطنين من ذوي الأصول الآسيوية وتعريضهم للخطر.

علاقة الصين - سوروس
عرفت العلاقة بين بكين والملياردير جورج سوروس، مؤسِّس ومموّل «مؤسّسة المجتمع المنفتح» التي تدعم المنظّمات غير الحكومية حول العالم، تقلّبات عديدة على مرّ السنين، قبل أن تتدهور بشكل واضح العام الماضي. «التمساح المالي» كانت أولى التسميات التي تُطلقها وسائل إعلام صينية على سوروس، عقب محاولته كسر تثبيت سعر دولار هونغ كونغ مقابل الدولار الأميركي، خلال الأزمة المالية التي شهدتها آسيا بين عامَي 1997 و1998. آنذاك، حال تدخُّل حكومة هونغ كونغ بقوّة في الأسواق دون نجاح هذه المهمّة. إلّا أنه بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، أعلن سوروس، عام 2009، أنّ على الصين الارتقاء إلى مستوى الزعيم الاقتصادي للعالم، قبل أن يَظهر ليُشارك تجربته كمستثمر عالمي على عدّة وسائل إعلام صينية. غير أن تلك «الهدنة» لم تَدُم طويلاً؛ إذ سرعان ما سيعلن سوروس، في عام 2016، خلال عشاء على هامش «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس، أنه «لا مفرّ عملياً من السقوط القاسي للاقتصاد الصيني»، لتؤكّد صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية المملوكة من الدولة، بعد أيام، أن «حرب سوروس على الرنمينبي (العملة الصينية) ودولار هونغ كونغ لا يمكن أن تنجح».
عرفت العلاقة بين بكين والملياردير جورج سوروس تقلّبات عديدة على مرّ السنين

وفي وقت لاحق، وصف سوروس، عام 2019، الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بـ«أخطر عدو للمجتمعات الحرّة، لأنه يترأّس نظام مراقبة ذا تقنيات عالية»، معتبراً أن «الصين ليست النظام الاستبدادي الوحيد في العالم، لكنّها الأغنى والأقوى والأكثر تقدُّماً تكنولوجياً».
وعلى أثر ذلك، اتّهمت «غلوبال تايمز»، «مؤسّسة المجتمع المنفتح»، بأنها موّلت منظّمة «هيومن رايتس ووتش» لنشر «إشاعات مناهضة للصين، حول آخر الأحداث في هونغ كونغ وتشينغيانغ، وحول أصول جائحة (كوفيد 19)». كما اتّهمت الصحيفة، سوروس، بأنه تواطأ مع مؤسِّس صحيفة «Apple Daily»، جيمي لاي، المسجون، في محاولة لافتعال «ثورة ملوّنة» في هونغ كونغ عام 2019، واصفةً الأوّل «بأكثر الناس شرّاً في العالم» وبـ«ابن الشيطان». واعتبرت أن «مفترس الوسق هذا، المتأثّر بالفلسفة الليبيرالية ومفهوم السوق الداروينية، لم يكشف عن جشع رأسماليّي (وول ستريت) فحسب، بل بات يؤدّي دور المُدافع عن الإيديولوجية»، مذكّرةً بالأرباح التي جناها من خلال «الهجوم على عملة المملكة المتّحدة، وتدمير قيمة البات التايلاندي، ما تسبّب بالأزمة المالية الآسيوية» وغيرها.
وأخيراً، بدأ سوروس يحرّض على عدم استثمار الشركات في الصين عبر تقارير على وسائل إعلام أميركية، متهجّماً، على سبيل المثال، على قرار شركة «بلاك روك» الأميركية استثمار مليار دولار في بكين، معتبراً أن مثل هذه الاستثمارات هي بمثابة «خطأ كبير، يضرّ بالأمن القومي الأميركي»، ومنبّهاً إلى أن «حوكمة الشركات الصينية لا ترتقي إلى المعايير المطلوبة، وأن الرئيس تشي غير قابل للمحاسبة من أيّ سلطة دولية»، في انعكاس آنذاك لتدهور العلاقات الأميركية - الصينية.

«منظّمة العفو الدولية»
في أواخر عام 2021، أعلنت «منظّمة العفو الدولية»، عبر موقعها الإلكتروني، أنها ستُغلق مكتبَيْها في هونغ كونغ، بحجّة أن «قانون الأمن القومي هناك يجعل من المستحيل بالنسبة لمنظّمات حقوق الإنسان أن تعمل بحرّية، ومن دون تخوّف من أن تُقابَل بأعمال انتقامية من جهة الحكومة». وعلى أثر ذلك، نشرت «غلوبال تايمز» تقريراً اتّهمت فيه هذه المنظّمة، الموجودة في هونغ كونغ منذ عام 1982، إلى جانب منظّمات غربية أخرى، بـ«تشويه صورة الشرطة» أثناء محاولة الأخيرة «فرض سيادة القانون» خلال الاضطرابات الاجتماعية التي شهدتها المنطقة في عام 2019. كما استخدمت «العفو الدولية»، بحسب الصحيفة، موقع «فايسبوك» ومنصّات التواصل الاجتماعي الأخرى لـ«إثارة المشاعر المعادية وتأجيج الصراعات». ونقلت عن عدد من الخبراء في هونغ كونغ إعرابهم عن اعتقادهم بأن «سبب فرار هذه المنظّمة من هونغ كونغ هو إدراكها بأنها لن تفلت من العدالة بسبب الأعمال غير القانونية الكثيرة التي ارتكبتها».
ولم تكن «العفو الدولية» الوحيدة التي قرّرت مغادرة هونغ كونغ بعد فرض هذا القانون، بل تبعتها «مؤسّسة فريدريش ناومان» و«المدرسة الجديدة للديموقراطية». والأولى، بحسب الصحيفة، كانت على علاقة وثيقة بـ«الحزب الديموقراطي الحرّ» الألماني، ودعمت الانفصاليين في هونغ كونغ وشيزانغ، قبل أن تُغلق مكاتبها في أيلول عام 2020. أمّا الثانية، والتي تأسّست في تايبيه، برعاية من «وكالة المخابرات المركزية» و«NED»، فأدّت دور العميل للقوات الخارجية المناهضة للصين في هونغ كونغ. وبحسب وسائل إعلام، فإن مديرها، جوزيف تشينغ يو شيك، كان أحد المحرّكين الأساسيين لحركة «احتلّوا الوسط» في هونغ كونغ في عام 2014، قبل أن يفرّ إلى أستراليا بداية هذا العام.