في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، سقط بالضربة القاضية مقترح النائبة عناية عزّ الدين في المجلس النيابي. مقترح قضى بحجز 26 مقعداً نيابياً للنساء في الانتخابات النيابية، ونسبة 40% على اللوائح المشكّلة مناصفةً بين الرجال والنساء. سقط القانون (بصفة العجلة)، الذي كانت عزّ الدين تعوّل عليه، بهدف إقرار الكوتا النسائية و«تحقيق مشاركة المرأة في مواقع القرار» على حدّ قول النائبة اللبنانية في إحدى تغريداتها.أُسدل الستار وانتهى الأمر كما هي حال الدورات السابقة من الانتخابات النيابية، التي يستفيق فيها بعض أهل السياسة وما يندرج حالياً في إطار المنظمات غير الحكومية، على إشراك المرأة في صناعة القرار ودخولها الندوة البرلمانية. فقد رست المعادلة يومها على تواجد 118 امرأة على اللوائح الانتخابية، بفارق بسيط عن دورة 2018، التي انتهت بمشاركة 111 امرأة، انخفضت أعدادهن بعد تشكيل اللوائح الى 86. بعد ذلك، فازت ستّ نساء فقط، ووصلن إلى الندوة البرلمانية، من بينهنّ خمس ينتمين إلى ما يُسمى بأحزاب السلطة. في النهاية، تمثّلت النساء بنسبة 4.6% فقط من أصل 128 نائباً!

غزت اللافتات الإعلانية طرقات لبنان والشاشات

مشهدية لا تزال تتكرّر في كل موسم انتخابي: تغييب شبه كامل لمشاركة المرأة في صنع القرار السياسي، في مقابل همروجة إعلامية وإعلانية تدخل فيها المنظمات غير الحكومية بقوة، وتلك المدعومة من جهات دولية وصناديق مالية أميركية وأوروبية، لإيصال المرأة إلى البرلمان. هذه الظاهرة بدأت تتبدّى في الآونة الأخيرة، مع طفرة هذه المنظمات، وانتشار رقعتها لتحتلّ الساحات الإعلامية ولافتات الطرق الإعلانية، وخروج شعارات مطالبة بإحقاق المناصفة في التمثيل النسائي البرلماني، وتمكين النساء ودعم خبراتهن في مجالات مختلفة. شعارات سرعان ما تُطمس بعد انتهاء الكرنفال الانتخابي، ثم تعود قبل أشهر قليلة من موعد الاستحقاق النيابي.
في عودة إلى تاريخ 2013، ظهرت جمعية «نساء رائدات» المدعومة من «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» (USAID) التي سرعان ما تغلغلت في الإعلام والفنادق الفارهة. جمعية حملت شعار إشراك المرأة في البرلمان، وتدريب النساء على اكتساب المهارات وإدارة الحملات الانتخابية وصولاً إلى إقامة المناظرات. انتهت الانتخابات، لتعود هذه المنظمة وتظهر باسم آخر هو «فيفتي فيفتي» على قاعدة «كل شي فرنجي برنجي»، وتروّج لتحقيق المناصفة الجندرية في القطاعين العام والخاص، واستقطاب النساء وخبراتهن للوصول إلى مراكز القرار والعمل على تحديث الاستراتيجيات الجندرية لتحقيق المساواة. واللافت هذه المرة في «مانيفستو» هذه الجمعية، هو التشديد على الشراكة مع الإعلام «لتسليط الضوء على إنجازات النساء المتخصّصات، بالتوازي مع إنجازات الرجال». وبالفعل، انتُخبت lbci، لتولي هذه المهمة، وانضم إليها الإعلامي سامي كليب، ومعه الكاتبة كلوديا مرشليان. ثلاثي قاد دفّة برنامج «خمسون خمسون بالسياسة» الذي انطلق عرضه في منتصف شباط (فبراير) الماضي، ضمن البرمجة الانتخابية النسائية هذه المرة.

حرص الإعلان على تظهير التنوّع الثقافي

على مدى أسابيع، أطلّت مع كليب نساء مرشحات للانتخابات النيابية، قدّمن على مدى نصف ساعة تقريباً برامجهن الانتخابية ورؤيتهن لقضايا شائكة في البلاد. البرنامج (إخراج جيلبير عبود) الذي تغطيه «فيفتي فيفتي» عبارة عن مساحة ترويجية لبعض المرشحات، حيث حاول كليب إرساء التوازن ما بين الموضوعية المطلوبة والمساءلة، وبين المديح والمغالاة لضيفاته. من جانبها، تولّت مرشليان الإضاءة على الجوانب الشخصية والإنسانية للضيفات عبر زيارات إلى مسقط رأسهن، والتعريف بـ «مسيرتهن» و«نضالاتهن». أكثر من سبع حلقات عُرضت أسبوعياً على شاشة lbci، لم تلقَ أصداء، ورُوّج لها حصراً على صفحات المرشحات وعلى منصات «فيفتي فيفتي». لعلّ غياب هذا التفاعل، دليل على أنّ البرنامج منسلخ عن الواقع المعاش والحيّز القانوني والتشريعي الذي يحول دون دخول المرأة بالشكل المطلوب إلى الندوة البرلمانية. والحال تنطبق على مجموعة الإعلانات الترويجية للمنظمة غير الحكومية، التي ملأت الطرقات والشاشات تحت عنوان «تركونا نقعد محلنا». هنا، تظهر مجموعة نساء عُمل على إبراز تنوّعهن الثقافي (الحجاب/ السفور)، وسط دعوة إلى إشراكهن في صناعة القرار وإعطائهن الصوت التفضيلي، وإنهاء التهميش بحقّهن (يتوسّلن المنظومة الذكورية لمنحهنّ حقّهنّ).
نصل إلى برنامج «مصلحة عامة» الذي طُرح أيضاً خلال فترة الانتخابات على «الجديد» ويقوم على استضافة سيدتين من صاحبات الخبرات في مجالات التنمية والتعليم والصحة العامة والتراث والاقتصاد والتنظيم المدني. البرنامج الذي ينتجه «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» (UNDP)، وتشاركه UN WOMEN، يندرج ضمن البرامج النسائية التي تضيء على خبرات المرأة في رسم السياسات الحياتية في لبنان، ويمتد على ثلاث حلقات فقط، عُرضت في فترة الظهيرة. في محصّلته، فتح البرنامج المصوَّر على طريقة البودكاست، نقاشات حول ربط البلد اقتصادياً عبر التنظيم المدني، وكيفية توزيع الخسائر المالية، وحول القطاعين الطبي والصحي، وذوي الاحتياجات الخاصة.
«فيفتي فيفتي» عبارة عن مساحة ترويجيّة لبعض المرشّحات

انتهت الحلقات الثلاث على شاشة «الجديد»، لتظهّر مرة أخرى الشرخ ما بين الواقع المعاش وما يُعرض من أفكار على الشاشات التي تندرج ضمن النقاشات النخبوية البعيدة عن هموم وأزمات الناس، خصوصاً النساء في الوقت الراهن. هكذا، وبخلاصة بسيطة، تطفو على السطح المنظّمات غير الحكومية، وتتغلغل في الواقع اللبناني أكثر من أي وقت مضى، في عزّ الأزمات الاقتصادية والمالية، لترفع شعارات مناصِرة للمرأة وتعزيز دورها السياسي. شعارات تنسلخ عن الجهد القانوني المطلوب على صعيد إقرار الكوتا وإرغام اللوائح الانتخابية على ضمّ أسماء مجموعة نساء مناصفة مع الذكور، في مقابل المتاجرة بهذه الشعارات واستخدامها فقط لكسب التمويل الدولي، في ظل استغلال هذه الثغر في التمثيل النسائي البرلماني.
تخيّلوا أننا في عام 2022، و«فيفتي فيفتي»، تنظم ندوة في البقاع حول التوعية على مشاركة المرأة في السياسة، مدعومة من ثلاث جهات دولية تمويلية: USAID، و«الاتحاد الأوروبي»، وUNDP! هل يحتاج المجتمع اللبناني فعلاً إلى التوعية في هذا الخصوص، وهذه الندوة إلى تمويل ثلاث جهات بهذا الحجم؟ ظاهرة تعبّر عن عينة بسيطة من الاستغلال الحقيقي الذي يجري على الساحة اللبنانية لمثل هذه القضايا، والتي يكون مصيرها في نهاية المطاف «ضبضبة» شعاراتها في الأدراج، وكذلك لافتاتها الإعلانية، لدى الإعلان عن نتائج الانتخابات، لتعود وترفعها في الموسم المقبل، ضمن حلقة مفرغة تُظهِر بالفعل مدى استغباء الناس وامتطاء القضايا الجوهرية وتجويفها تحقيقاً للمصالح الخاصة.