بعدما ألغت عازفة البيانو الجورجية كاتيا بونياتيشفيلي مشاركتها في ريسيتال بيانو في الدورة الحالية من «مهرجان البستان»، بتنا نعوّل على زميلها الروسي بوريس بيريزوفسكي (1969) في هذه الفئة الأساسية للحدث الذي انطلق منتصف الشهر الماضي ليستمر حتى 13 آذار (مارس) الجاري. بيريزوفسكي، المارد الروسي الذي يتربّع على أكثر من ثلاثة عقود من النجاح في هذه المهنة الصعبة، يقدّم مساهمةً غير عادية في «البستان»، إذ يؤدّي على مدى ليلتَين متتاليتَين (اليوم وغداً) برنامجَين مختلفَين تماماً، صعبَين جداً وطويلَين نسبياً. إنه إنجاز فنّي لا يقدر عليه الكثير من عازفي البيانو المحترفين، حيث توالي الأمسيات يتخلّله تعديل طفيف في البرنامج غالباً.

هذا إن لم يتمّ اعتماد البرنامج ذاته في بعض الحالات (إن كانت الأمسيات لا تحصل ضمن حدث واحد أو البلد ذاته). بهذا يثبت بيريزوفسكي أنّه لا يزال يتمتع بكامل لياقته التقنية (البرنامجان شديدا الصعوبة) والجسدية (ومتعبان جداً) وبكامل قدراته لناحية الذاكرة (المقطوعات تكون محفوظة غيباً ولا يستعين العازف بالمدوّنة الموسيقية للمقطوعات التي يؤدّيها).
نعود قليلاً إلى أمسية قائدة الأوركسترا الشابة غلاس ماركانو التي قدّمت الجمعة الماضي أمسية على رأس «الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية». لقد كانت سهرة جميلة في جوّها العام وروح المايسترا الفنزويلية الناضحة بالحيوية والشغف. الهفوات كانت قليلة، وبعضها نافر، لكن لا يسمح الضمير بعدم التغاضي عنها في هذه الظروف الصعبة التي تمرّ بها أوركسترانا وموسيقيّوها. حتى هذه الأمسية، ببرنامجها غير المتطلّب جداً (لناحية حجم الأوركسترا وآلاتها)، لم تكن ممكنة لولا استقدام ثلاثة عازفي ترومبون من النمسا وأربعة موسيقيين من سوريا وأربعة من الأكاديمية الملكية في بريطانيا. هذا حرام، لكن ليس وقته الآن، وسنعود إلى هذه النقطة لنعطيها حقّها في التوسّع… والحدّية! بقيادة ماركانو، سمعنا سمفونية تشايكوفسكي الرابعة، بأداء جميل (باستثناء بعض الضعف في الحركة الأولى)، سبقها «فالس الزهور» للمؤلف الروسي كذلك، وتلتها افتتاحية «وليَم تلّ» لروسّيني، علماً أنه تم اقتطاع البداية الهادئة الجميلة التي تؤمن التوازن مع القسم الثاني السريع والهجومي الذي تمّ الاكتفاء به لسبب غير معلوم.
أما الختام، فكان تحية لأميركا اللاتينية وجرعة فرح للحاضرين، مع إضافة عملين من عند ملك المامبو المكسيكي بيريز برادو (مامبو رقم 8، تلاه مباشرة الرقم 5)، وقد شارك الجمهور تصفيقاً (بناءً على طلب ماركانو) والأوركسترا حركةً وصراخاً.
يؤدّي الليلة السوناتة الرقم 11 لبيتهوفن، التي تنتمي إلى الفئة الجميلة والمغمورة ضمن السوناتات الـ32


أما الليلة، فالموعد مع البيانو الروسي. بوريس بيريزوفسكي، الذي يلبّي دعوة المهرجان للمرة التاسعة (المرة الأولى تعود إلى بدايات «البستان» وكذلك بدايات بيريزوفسكي، 1996)، يؤدّي الليلة السوناتة الرقم 11 لبيتهوفن، التي تنتمي إلى الفئة الجميلة والمغمورة ضمن السوناتات الـ32، بالإضافة إلى باقة من أعمال وحش البيانو الروسي (تأليفاً) ألكسندر سكريابين (1872 — 1915)، من بينها السوناتتان الرقمان 5 و6، وكذلك عمل بعنوان Venezia e Napoli للمجري فرانز لَيسْت (1811 — 1886) تشارك في أدائه، تلميذة بيريزوفسكي، الفتاة الموهوبة كارينا تير-غازاريان (عمرها 14 أو 15 سنة). كارينا تؤدي في الليلة الثانية عملاً آخر للِيسْت (عمل معقّد مبنيّ على أوبرا «نورما» لبيلّيني) إلى جانب أستاذها، الذي ينفرد بباقي البرنامج: السوناتتان الرقمان 3 و12 (تتضمّن مارشاً جنائزياً مؤلماً) لبيتهوفن والسوناتة السابعة لكسريابين وباقة من ست مقطوعات لفرانز شوبرت بعنوان «لحظات موسيقية».
بعد نيله الميدالية الذهبية في «مسابقة تشايكوفسكي» عام 1990، انطلق بوريس بيريزوفسكي إلى عالم الحفلات والتسجيل، فقدّم مجموعة ديسكات تحت راية الناشر الشهير Teldec (شوبان، رخمانينوف، لِيسْت، شومان، مدتنر، تشايكوفسكي،…) قبل أن ينتقل إلى ناشر جديد نسبياً على الساحة لكنه احتلّ مرتبة مرموقة في هذا المجال، Mirare، الذي أصدر للموسيقي الروسي ديسكات عدة (شوبان، رخمانينوف،…)، قبل أن ينكفئ الأخير عن تقديم أي جديد من هذه الناحية خلال العقد الأخير.

* أمسية بوريس بيريزوفسكي الليلة وغداً ـ «فندق البستان» (بيت مري) ـــ للاستعلام: albustanfestival.com