في تماهٍ تام مع الاستراتيجيات الإسرائيلية والأميركية في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، نحت الإمارات، في الأسابيع الأخيرة، إلى الانخراط في دبلوماسية نشطة لاستعادة تأثير قوّتها الصلبة، وضمان إحكام سيطرتها على عدد من النقاط البحرية الهامّة على الساحل الأفريقي قبالة اليمن وقرب المدخل الجنوبي للبحر الأحمر مباشرة، ضمن ما يعتبره خبراء استراتيجية شاملة في سياق التنافس الدولي الجاري. وتجلّت هذه العودة في الانحراط في النشاط الملموس للأسطول الأميركي الخامس المسؤول عن البحر الأحمر والخليج العربي وأجزاء من المحيط الهندي، ولا سيما منذ المناورات المشتركة التي خاضتها الإمارات مع قوات بحرية إسرائيلية وبحرينية في البحر الأحمر بتنسيق مع قيادة الأسطول الخامس (تشرين الثاني 2021)، وما تلاها من محطات تعميقٍ للتحالف مع إسرائيل وإثيوبيا ثمّ تركيا في ملفات عديدة، بالتزامن مع مشاركة إسرائيلية هي الأولى من نوعها في تدريبات عسكرية دولية برعاية الأسطول الأميركي والقوات البحرية الإماراتية (مناورة IMX في البحرين التي انتهت في 17 شباط الجاري، إلى جانب عدد من الدول من بينها السعودية وباكستان ومصر). وهكذا، تتجاوز الإمارات مسألة ديمومة الأصدقاء والأعداء إلى أولوية المصالح المطلقة، بما يتناسب مع وظيفتها الإقليمية الراهنة، كبوّابة واسعة للتمدّد الإسرائيلي في البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
دعم الشريك الإثيوبي
أشّرت مخرجات زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، للإمارات (26 كانون الثاني الفائت)، وما تلاها من زيارة لرئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد (29 يناير)، للبلد نفسه، إلى واقعيّة المخاوف المصرية من سياسات أبو ظبي في القرن الأفريقي، وعودتها (مع دول خليجية أخرى) إلى تكتيك «الأذن الصمّاء» إزاء القاهرة، بالتزامن مع عملية «إعادة تأهيل» لنظام آبي أحمد إقليمياً ودولياً، بدعم إماراتي. وعزّزت زيارة الأخير لأبو ظبي الشراكة الإثيوبية الوطيدة مع الإمارات، التي كان لها الباع الأكبر في دعمه في حربه ضدّ قوات إقليم التيجراي، عبر تزويده (إلى جانب تركيا والصين) بالمسيّرات المسلّحة التي غيّرت الموقف العملياتي لمصلحته تماماً منذ نهاية تشرين الثاني 2021. ودلّ على ذلك جدول الأعمال الموسّع الذي شمل التعاون في مجالات عديدة، على رأسها التنمية والاستثمارات في الزراعة والتجارة وغيرهما. وكانت كشفت تحقيقات إعلامية غربية (منتصف الجاري) عن توجيه أبو ظبي 119 رحلة جوّية بطائرات شحن طوال خمسة أشهر، من المطارات العسكرية الإماراتية إلى قاعدة «هرر-ميدا» الجوّية قرب أديس أبابا. واستندت التحقيقات إلى تحليل صور فضائية، مثل بقايا صاروخ مستخدَم في هجوم على سوق «ألاماتا» جنوبي تيجراي منتصف كانون الأول الماضي، وأخرى تُظهر استخدام قوات الحكومة الإثيوبية مسيّرات وصواريخ صينيّة الصنع سبق أن تحصّلت عليها من مخازن قوات الدفاع الإماراتية.
تتناقض المواقف الإماراتية في إقليم القرن الأفريقي برمّتها مع جوهر السياسات المصرية


عين على «أرض الصومال»
على نقيض الاستقبال الحافل الذي حظي به آبي أحمد في زيارته الإمارات، بدت زيارة نظيره الصومالي، حسين روبلي، لأبو ظبي (30 كانون الثاني) دون مستوى البروتوكول المُتَّبع في هكذا حالات. ويبدو، في ما وراء ذلك، الانحياز الإماراتي الكامل إلى مساعي إثيوبيا لإعادة بسط هيمنتها على الصومال المجاور من عدّة منافذ، أبرزها إقليم «أرض الصومال» الساعي للانفصال عن الصومال، والذي يكتسب حضوراً متزايداً في قلب شبكة معقّدة من المنافسات، تبرز فيها كلّ من الصين والولايات المتحدة وتايوان. وفي ظلّ تزايد الاهتمام الدولي بالإقليم، وإمكانية حدوث اختراق في مساعي الاعتراف به دولة مستقلّة، تدفع الإمارات بقوّة في اتّجاه تعزيز حضورها داخله، اقتصادياً وسياسياً. وفي مؤشّر واضح إلى ذلك، استبقت الرئيسة الإثيوبية، ساهلورق زودي (27 كانون الثاني)، زيارة آبي أحمد للإمارات بإعلان رفع مستوى تمثيل بلادها في «أرض الصومال» إلى درجة سفير كامل، الأمر الذي عدّته مصادر صومالية توجّهاً إثيوبياً لإعادة النظر في سياسات أديس أبابا تجاه الإدارة الانفصالية، عقب زيارة رئيس الإقليم، موسى بيهي، لأديس أبابا (19 كانون الأول)، في وقت يسود فيه الترقّب لزيارته الأولى لواشنطن في شهر آذار المقبل. وعلى رغم تأكيد إثيوبيا، عقب زيارة بيهي لها، أن «أرض الصومال جزء من (جمهورية) الصومال»، إلّا أن توقيت الترقية عزّز الحديث عن سعي أديس أبابا إلى الحصول على منفذ بحري مستقلّ لها في ميناء زيلع القديم قرب ميناء جيبوتي ومضيق باب المندب مباشرة، الأمر الذي يُتوقّع أن يتمّ بنسبة كبيرة بدعم استثماري إماراتي، في تكرار لنموذج «ممرّ بربر»، من دون أيّ تنسيق مع مقديشو، وفي تهديد أكثر من خطير لرؤية مصر التقليدية لأمن البحر الأحمر الجنوبي وخليج عدن.

توتّر مكتوم مع مصر
تتناقض المواقف الإماراتية في إقليم القرن الأفريقي برمّتها مع جوهر السياسات المصرية، كما يتّضح مثلاً في حالة «أرض الصومال»، حيث ترفض مصر منذ سنوات بعيدة فكرة استقلال الإقليم، وقادت جهود منع طرح المسألة في قمم الاتحاد الأفريقي. كما يأتي التنسيق الإماراتي - الإثيوبي في الصومال على نقيض المساعي المصرية لاستعادة دور ما في المنطقة، عبر البوّابة الوحيدة القائمة حالياً: الصومال. ومن شأن هذا التنقاض أن يضيف أعباء أخرى على كاهل صانع القرار المصري، علماً أن القاهرة تدفع في اتّجاه تهميش المشاركة العسكرية الإثيوبية في بعثة قوات الاتحاد الأفريقي في الصومال «أميصوم»، لمصلحة تعزيز حضورها هي في هذه القوّات. وعلى رغم الصمت الإعلامي والنخبوي المصري التقليدي إزاء تهديدات الدور الإماراتي لمصالح الأمن القومي المصري في القرن الأفريقي واعتباراته، إلّا أن إعلان أديس أبابا بدء توليد الكهرباء من سدّ النهضة (20 شباط) أثار قدراً من التساؤلات حول خطورة المقاربة الإماراتية ودورها في رفد نظام آبي أحمد بقدرة أكبر على استفزاز القاهرة بالاستمرار في سياسات الأمر الواقع في هذا الملفّ، فضلاً عن توفير دعم مالي له لاستعادة هيمنته الإقليمية الملائمة لمصالح أبو ظبي، والتي قادت طوال الأعوام الماضية إلى إلحاق أضرار جسيمة بمصالح مصر المباشرة في الإقليم.

خلاصة
تحدّثت تحليلات عدّة عن مساعي الإمارات لدور أكبر في «ضبط» ترتيبات الأمن الإقليمي في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، على نحو يتّسق تماماً مع السياسات الأميركية والإسرائيلية، وسط تجاهُل متزايد لهواجس القاهرة ومطالبها. وربّما دلّ على هذا التوجّه - في سياقٍ لا ينفصل عن أزمة سدّ النهضة وتوظيفها إماراتياً على أكثر من مستوى - ما أعلنته شركة إماراتية منتصف شباط الجاري من دخولها محادثات مع الحكومة المصرية حول مشروع تحلية مياه بالطاقة المتجدّدة باستثمارات بقيمة 1.5 بليون دولار، وهو الإعلان الذي جاء بعد تأكيد الحكومة المصرية تقديم شركتَين كبيرتَين (سعودية ومصرية) طلباً لإقامة محطّة تحلية مياه تهدف إلى إنتاج 2.9 مليون متر مكعب يومياً بحلول عام 2030. إزاء ذلك، وفي ظلّ تغليب أبو ظبي رؤيتها لـ«التعاون الإقليمي» خارج سياقات مفاهيم «الدولة الوطنية» (ناهيك عن أفكار الأمن القومي) ومصالحها الاستراتيجية، وبالاتّساق الكامل مع التحرّكات الأميركية والإسرائيلية، فإن توقّعات تَحلُّل مصر من ارتباطاتها مع الإمارات في أكثر من ملفّ (في القرن الأفريقي تحديداً)، تظلّ قائمة.