منذ وصول السلطان هيثم بن طارق آل سعيد، إلى سدّة الحُكم في عُمان في كانون الثاني 2020، برز تحوُّل في السياسة الخارجية العُمانية، على رغم محاولة هيثم الحفاظ على الخطوط العريضة التي أرساها سلفه، السلطان قابوس بن سعيد. ولعلّ وصول السعودية إلى حائط مسدود في حربها على اليمن، وحاجتها إلى احتواء السلطنة، وهواجسها المشتركة مع الأخيرة إزاء الطموحات الإماراتية، سواءً على الصعيد الاقتصادي، أو على مستوى النفوذ في اليمن، كلّها عوامل أدّت إلى التحوّل المذكور، والذي حمل معه تطوّراً في العلاقات بين مسقط والرياض، إذ ابتعدت العاصمتان عن المناكفات السياسية داخل «مجلس التعاون الخليجي»، كما هدّأتا من صراعهما في محافظة المهرة شرقيّ اليمن، حيث بدأت السعودية تُظهر تفهّماً أكبر للدور العُماني الوسطي في سياق الحرب، توازياً مع سعيها إلى استثمار العلاقات العُمانية - الإيرانية التاريخية في سبيل حلّ الخلافات بينها وبين طهران، وإعادة التوازن إلى التموضع العُماني، بعد أن أحدثت مسقط، بحسبها، اختلالاً على مرّ السنوات الماضية، من خلال صِلاتها العميقة بالجمهورية الإسلامية. وتجلّى التقارب بين الجارتَين الخليجيتَين في عدّة صور من بينها توقيع استثمارات بقيمة 30 مليار دولار، تشمل قطاعات الطاقة، والرعاية الصحية والصناعات الدوائية، والتطوير العقاري، والسياحة، والبتروكيماويات، والصناعات التحويلية، والصناعات الغذائية، والزراعة، والنقل، والخدمات اللوجستية، وتقنية المعلومات، والتقنية المالية، بالإضافة إلى عدد من الاستثمارات النوعية في منطقة الدقم. كما تمّ افتتاح أوّل طريق برّي بين البلدَين، في ما وُصف بـ«الطريق الإستراتيجي» الذي يبدأ من دوار عبري في محافظة الظاهرة العمانية، وينتهي عند تقاطع البطحاء السعودية، بطول 725 كيلومتراً مروراً بصحراء الربع الخالي، هذا فضلاً عن استفادة الرياض من الموانئ العُمانية كبديل من ميناء جبل علي الإماراتي. ومن جهتها، تسعى مسقط، من خلال التقارب مع الرياض، إلى الاستناد إلى ظَهر تعتقد أنه الأقدر على كبح المواقف العدائية الإماراتية.
على خلفية ما تَقّدم، يمكن فهْم انسحاب القوات السعودية المتواجدة في محافظة المهرة، التي تمثّل عمقاً استراتيجياً بالنسبة إلى السلطنة، من معسكرات مهمّة أنشأتها عقب وصولها إلى المحافظة، أواخر عام 2017، على رأسها معسكر في ميناء نشطون المطلّ على بحر العرب في مدينة الغيضة، مركز المحافظة. وسبق الانسحابَ من نشطون الخروجُ من معسكرات أخرى في مديرية حات الصحراوية، ومديرية شحن الحدودية، ليقتصر التواجد العسكري والاستخباراتي السعودي على المعابر الحدودية (صرفيت وشحن) بين اليمن وعُمان، وكذلك المقرّ الرئيس للقوات السعودية في مطار الغيضة الدولي. على أن هذا الانكفاء السعودي لا يبدو، إلى الآن، أنه يستتبع موقفاً إماراتياً مماثلاً؛ إذ لا تفتأ أبو ظبي تحاول تعزيز خروقاتها في المهرة، بالتأسيس على «مكاسب» حقّقتها قبل فترة في محافظة شبوة، حيث استطاعت تعيين محافظ موالٍ لها هناك، هو عوض العولقي.
يعمل «الانتقالي» على تأليب الشارع المهَري ضدّ السلطات المحلية التابعة للسعودية


ويعمل «المجلس الانتقالي الجنوبي»، الموالي للإمارات، منذ بداية الشهر الجاري، على تأليب الشارع المهَري ضدّ السلطات المحلية التابعة للسعودية، انطلاقاً من مطالب خدمية وحقوقية، في ما يشبه الإرهاصات التي سبقت «الهَبّة الحضرمية الثانية». كذلك، بدأ «الانتقالي» عقْد لقاءات مع الشيوخ والشخصيات الاجتماعية والسياسية والأكاديمية، ومنظّمات المجتمع المدني والشباب والمرأة في مدينة الغيضة، في سياق المسعى «التحريضي» نفسه، علماً أن المهرة تُعدّ الأكثر استقراراً من بين المحافظات الخاضعة لسيطرة التحالف السعودي - الإماراتي، كما أنها تتمتّع بمستوى أفضل من الخدمات لارتباط بنيتها التحتية من كهرباء ومستشفيات ومياه وتعليم وغيرها، بسلطنة عُمان. على أن حقيقة الصراع ليست مرتبطة بدعوى «انتزاع الحقوق» التي جرى رفعها أيضاً في حضرموت، بل بالثروة النفطية والإدارة الأمنية والسياسية للمحافظة، والتي تحتلّ السعودية في سياق التنازع عليها موقعاً رئيساً، عبر رفْضها إزاحة حلفائها من القبائل وحزب «الإصلاح» من مواقع السلطة والنفوذ.
ولعلّ من بين أوضح صور هذا الصراع، امتناع مسقط عن مجاراة موقف أبو ظبي، في أعقاب الضربات الجوّية التي تعرّضت لها الإمارات الشهر الماضي، على أيدي الجيش اليمني و«اللجان الشعبية». إذ رفض وزير الخارجية العُماني، بدر البوسعيدي، تصنيف حركة «أنصار الله» منظّمة إرهابية، معتبراً الحركة «جزءاً من الحلّ، وتصنيفها جماعة إرهابية تقويضاً لجهود إحضارها إلى طاولة المفاوضات». وأثار هذا الموقف غضباً إماراتياً، تُرجم بحملات إعلامية شنّها مقرّبون من أبو ظبي ضدّ مسقط، بالإضافة إلى حملات مماثلة على «تويتر» نفّذها الجيش الإماراتي الإلكتروني.