تنتظر واشنطن أيّامٌ صعبة في أميركا الجنوبية، حيث بدأت حصد ما زرعته هناك من استعمار متوحّش قتَل أحلام اللاتينيين على مرّ عقود. ومع تسارع التوقّعات بأن تشهد كلّ من البرازيل وكولومبيا، الدولتَين الشديدتَي الأهمية والخطورة على مصالح الإمبراطورية، تحوّلات كبرى في العام الجاري عنوانها عودة اليسار تحت راية لويس إيناسيو لولا دا سيلفا وغوستافو بيترو، تتزايد الآمال بأن تكون 2022 سنة طرد الأميركيين من الإدارات ومراكز النفوذ، وقلْع شركاتهم الناهبة للثروات الطبيعية، إيذاناً بنشوء الجبهة المتّحدة من أقاصي سانتياغو إلى شواطئ بوغوتا.
استخدمت الولايات المتحدة، على مرّ عقود، كلّ أدوات نفوذها لفرض هيمنتها على دول أميركا الجنوبية، مغدِقةً الدعم على الشخصيات الموالية لها على حساب نهضة بلادها وأمنها الاجتماعي والاقتصادي. لم تكترث واشنطن لجوع الفقراء وطوابير المرضى أمام المستشفيات البالية، كما لم تهتمّ لأرقام المعوزين المرتفعة وللاقتصادات المتهاوية على وقْع سياسات الانتفاع مقابل فتْح الأبواب أمام الشركات الأجنبية لامتصاص ثروات الشعوب. كذلك، لم تُعِر أيّ احترام للديموقراطية الشعبية وحرية اختيار الشعوب اللاتينية لقادتها السياسيين، بل عكفت على إدارة الانقلابات الدستورية والعسكرية الدامية، وتنصيب مَن عاثوا في البلاد فساداً وتدميراً. حصيلة الحرب الأميركية غير المعلَنة على ما تسمّيها واشنطن «حديقتها الخلفية»، جاءت كارثية على دول أميركا اللاتينية التي كانت تتحضّر للخروج من دائرة «جمهوريات الموز»، في اتّجاه النموّ المستدام وإنشاء بنية تحتية تنقل البلاد إلى مصافي الدول المتقدّمة، وهو ما حقّقته البرازيل قبل مرحلة الانقلاب الدستوري عام 2015 حيث أضحت سادس اقتصاد عالمي، وأنجزته بوليفيا قبل الانقلاب العسكري الدامي عام 2019 بتسجيلها أعلى نسبة نموّ اقتصادي في منطقة أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، وأيضاً الأرجنتين قبل وصول ماوريسيو ماكري عام 2015 إلى الحُكم بتجاوُزها مرحلة الإفلاس نحو إعادة بناء الاقتصاد. لكنّ الكارثة الكبرى حلّت على الولايات المتحدة من خلال خسارات بالجملة تكبّدتها العام الماضي، فيما تتحضّر لخسارة إضافية هذا العام الذي سيشكّل انعطافة مفصلية في تاريخ أميركا الجنوبية، ولعلّه سيكون عام طرد أجهزة واشنطن السياسية والأمنية من كبرى الدول اللاتينية التي تتهيّأ للمواجهة المصيرية.

البرازيل
أبرز التحدّيات الأميركية لهذه السنة، يتمثّل في دولتَين شديدتَي الأهمية والخطورة على مصالح واشنطن، وهما البرازيل وكولومبيا. فالأولى باتت على أعتاب العودة إلى حُكم «حزب العمال» بعد انكشاف كلّ التدخّلات الأميركية التي جيّرت القضاء والسياسة للإطاحة بالديموقراطية البرازيلية، وتنصيب اليمين المتطرّف الذي فشل في إدارة الدولة، وأنتج دماراً هائلاً في بُنية البرازيل الاقتصادية وعلاقاتها الخارجية، فضلاً عن السياسات الصحّية الكارثية التي انتهجها وأودت بحياة 630 ألف ضحية خلال تفشّي وباء «كورونا». وفي محاولة لتطويق عودة الزعيم «العمالي»، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، حشدت الولايات المتحدة كلّ طاقاتها لتعويم ترشيح القاضي السابق، سيرجيو مورو، الذي سقط بالضربة القاضية بعد افتضاح تلقّيه رشاوى من شركة «مرسيل وألفاريز» مقابل إقفال شركات منافِسة للأخيرة، أثناء قيادته حملة لمكافحة الفساد في البلاد. واعترف مورو بتلقّيه ثلاثة ملايين ونصف ميلون ريال برازيلي (550 ألف دولار أميركي) كبدل عن استشارات قانونية أثناء ممارسته مهنة القضاء، وهو ما يُعتبر انتهاكاً فاضحاً للقانون البرازيلي.
فضيحة وزير العدل السابق وقاضي التحقيق الذي لفّق ملفّ الفساد ضدّ دا سيلفا، لم تقتصر على تجييره صلاحياته القضائية لتصفية حسابات سياسية ومصالح مالية، بل انعكست تداعياتها المأساوية على مجمل الاقتصاد البرازيلي الذي واجه تحدّيات صعبة على وقْع إقفال مئات الشركات وطرد عشرات آلاف الموظفين، والأخطر تجهيز الملفّات المفبركة لتدمير الشركات الحكومية، وعلى رأسها شركة «بتروبراس» النفطية الحكومية، وبنك البرازيل، والصندق الاقتصادي الفيدرالي الذي يحمل أعباء العديد من البرامج الاجتماعية، خاصة في مجالَي الإسكان والاستثمارات المحدودة للطبقات الفقيرة. لم ينجُ سيرجيو مورو، هذه المرّة، من براثن العدالة التي استدعتْه للتحقيق، وسجّلت اعترافاته المجتزأة حتى الآن، بعد تكشّف ثروته العقارية في الولايات المتحدة، فيما بدأ القضاء بملاحقة حساباته الخارجية التي من المرجّح أن تكشف عن مبالغ طائلة تقاضاها على مدى أعوام من الاستثمار في صلاحياته القضائية، إثر طلب المدّعي العام الفيدرالي، لوكاس فورتادو، تجميد حساباته المالية والكشف عن كامل حساباته الداخلية والخارجية.
احتمال فوز اليسار في الانتخابات الرئاسية الكولومبية أحدث صدًى مدوّياً في أروقة واشنطن


سقوط مورو من المرحلة الأولى أربك واشنطن التي خسرت جلّ أوراقها البرازيلية، على وقْع فضيحة طاولتها قبل أن تطاول القاضي الفاسد الذي أريدَ له أن يخدع البرازيليين للمرّة الثانية، وتظهيره كبطل قومي يسعى إلى إنقاذ البرازيل من سياسات الفساد. لكنّ الحقيقة أن الصقفة الأميركية التي أجبرت عدداً من الأحزاب والشخصيات السياسية على مبايعة مورو، كانت تهدف إلى إدامة سيطرة الولايات المتحدة على القرار السياسي البرازيلي، وتحقيق إنجازات فشل في بلوغها الرئيس الحالي، جايير بولسنارو، نتيجة رفض داخلي عارم لسياساته، ولا سيما منها خصخصة شركة «بتروبراس» وعدد من الشركات الحكومية الأخرى، فضلاً عن الفشل الذريع في إنشاء المشروع الاستثماري الأميركي البرازيلي في غابة الأمازون، وهو المشروع الظِّلّ للتواجد الأميركي المباشر المشرِف على خزان الثروات الطبيعية، والمسيطِر على أكثر المناطق استراتيجية في المجال الأمني. لكنّ تخبّط بولسنارو وهبوط شعبيّته بشكل سريع منَعا من تحقيق هذا الهدف، لينجم عن تكشُّفِ خيوط التدخّل الأميركي، عبر دعم كبرى الشخصيات الفاسدة، دفْع قوي لحظوظ دا سيلفا، الذي يتصدّر المشهد الانتخابي حالياً من دون منازع، خصوصاً بعد إسقاط محكمة الاستئناف الفيدرالية آخر الملفات القضائية ضدّه، وإعلانها براءته من الاتهامات السابقة المُوجَّهة إليه. وتكشف الاستطلاعات أن اليسار البرازيلي يتّجه لحسم نتيجة الانتخابات الرئاسية لمصلحته من الجولة الأولى، إذا لم تطرأ متغيّرات خارج الحسبان.

كولومبيا
هذا السقوط المتوقَّع في البرازيل، ستتبعه ضربة أخرى للمصالح الأميركية في القارة اللاتينية، إذا ما استمرّ تقدّم اليسار الكولومبي في الانتخابات الرئاسية، وتفوّق مرشّحه غوستافو بيترو للمرّة الأولى في تاريخ كولومبيا، وسط انقسام اليمين حول مرشّحه الجديد، سيرجيو فاغاردو، الذي لم يتمّ تبنّيه رسمياً حتى الآن. وعلى الرغم من الأهمية الكبرى لتغيير النهج الرئاسي التقليدي في كولومبيا، إلّا أن عين اليسار تبدو شاخصة نحو الانتخابات البرلمانية التي ستُجرى في الثالث عشر من آذار القادم، حيث يُراهن التيّار المعارض على تقوية موقفه البرلماني إيذاناً بالدخول بقوّة على خطّ الحُكم المستقبلي. ومن المقرَّر إجراء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الكولومبية في 29 أيار (بعد أكثر من شهرين من الانتخابات التشريعية في آذار)، وفي حال عدم الحسم من الجولة الأولى، تُطلَق الجولة الثانية في 19 تموز. ويأتي هذا الاستحقاق بينما يعيش اليمين الكولومبي أحرج أوقاته السياسية، بعد فشله الذريع على المستويَين الاقتصادي والأمني، الأمر الذي فجّر احتجاجات ضخمة في البلاد، ترافقت مع عمليات اغتيال واسعة شملت عدداً من المدن والأرياف الكولومبية.
احتمال فوز اليسار في الانتخابات الرئاسية الكولومبية، أحدث صدًى مدوّياً في أروقة واشنطن، التي تَعتبر بوغوتا جزءاً من حزامها الأمني، وترى أن أيّ خسارة لنفوذها داخل السلطة الكولومبية سيمثّل زلزالاً شديد التأثير على المصالح الأميركية، وهو ما عبّر عنه عدد من أعضاء الكونغرس الجمهوريين، الذين كشفوا عن قلقهم تجاه الواقع الانتخابي في كولومبيا، ووصفوا المرشّح غوستافو بيترو بأنه «اشتراكي إرهابي». وخلال جلسة للجنة فرعية في مجلس النواب، انتقدت المُشرّعة الجمهورية، ماريا إلفيرا سالازار، موقف إدارة جو بايدن من الانتخابات الرئاسية في كولومبيا، وإحجامها عن مواجهة بيترو، فيما تساءل وكيل وزارة الخارجية الحالي لشؤون المنطقة الغربية، بريان نيكولز، عمّا إذا كان البيت الأبيض يَعتبر حقاً بيترو «تهديداً للديموقراطية» في المنطقة. في المقابل، أوضح مستشار الرئيس جو بايدن، خوان غونزاليس، أنه ليست لدى بايدن أيّ فكرة عن بيترو، لتردّ عليه السيناتورة الجمهورية، ماريا إلفيرا سالازار، بحدّة قائلة: «سأخبرك من هو: إنه لصّ، اشتراكي، ماركسي، إرهابي، وهو في طريقه لتسلّم الرئاسة الكولومبية حسب استطلاعات الرأي». بدوره، أعرب السيناتور الجمهوري، ماركو روبيو (وهو المسؤول عن الملفّ الفنزويلي داخل الإدارة الأميركية)، عن قلقه أيضاً بشأن الانتخابات في كولومبيا، ووصف بيترو بأنه «خطر شديد على الديموقراطية في المنطقة». وعلى خلفية ذلك، بدأت واشنطن استنفار أجهزتها الإعلامية والسياسية لشيطنة بيترو وإعادة تعويم اليمين الذي يشكّل حاجة استراتيجية لواشنطن التي تَعتبر خسارة كولومبيا بمثابة انكشاف أمني خطير؛ فالبلد اللاتيني هو البوّابة الأساسية لأميركا الجنوبية، والمحاذي لألدّ أعداء أميركا، أي فنزويلا، فيما أيّ تغيير في الخارطة السياسية اللاتينية بما من شأنه فكّ الحصار عن كاراكاس، سيكون من شأنه زعزعة كلّ البنية الأميركية في المنطقة، وصولاً حتى إلى شلّ يدها كلّياً على مساحة الوطن الأميركي الجنوبي.

بوليفيا
الخسارة الثالثة لواشنطن في أميركا اللاتينية تمثّلت في استعادة بوليفيا دورها الريادي في التنمية الاقتصادية والاستثمار الواسع في قطاع الطاقة خلال العام الحالي. وبحسب وزير الطاقة البوليفي، فرانكلين مولينا أورتيز، فإنه بحلول نيسان من العام الجاري، سيتمّ الانتهاء من المراحل التجريبية لتقنية استخراج الليثيوم المباشر، كما سيتمّ تحديد الشركات التي سيُتّفق معها على تصنيع هذه المادة. وأشار الوزير إلى أنه من المتوقّع أن يبدأ في السنة الحالية تصدير الكهرباء إلى الأرجنتين بمجرّد اكتمال المشروع المسمّى «خطّ النقل 132»، الأمر الذي يُظهر نجاح الوزارة في خطّتها التنشيطية لعام 2021، بعد الأضرار الجسيمة التي لحقت بالقطاع خلال إدارة حكومة الأمر الواقع السابقة التي رأستها جانيين أنيز. كذلك، أعلن الوزير البوليفي أن بلاده ستسعى إلى تصدير الطاقة إلى عدد من دول الجوار بعد استكمال الرؤية المفترض إنجازها العام الجاري، وأن بلاده تسير في خطّة شاملة لإخراج قطاع الطاقة من الأنقاض، مؤكداً أنه بفضل تلك الخطّة أصبحت لاباز تنتج الليثيوم والكهرباء والطاقة النووية، بالشراكة مع روسيا التي تنفّذ حالياً أكبر مشروعات إنتاج الطاقة عبر البرنامج النووي، وهو ما اعتبرته واشنطن تحدّياً خطيراً في طريقة اتّخاذ القرارات من قِبَل بوليفيا، من دون الأخذ في الاعتبار حساسية القلق الأميركي من نشوء «أنظمة مارقة» لديها فائض قوة واستقلالية تامّة في اتّخاذ القرارات السيادية.
قلق أميركي واجهه الرئيس البوليفي، لويس أرسي، بتصريحات نارية أكد فيها أن هزيمة المشروع الانقلابي الذي رعته واشنطن، أعادت البلاد خلال أقلّ من عامين إلى قمّة الاقتصادات اللاتينية، حيث سجّلت نموّاً بنسبة 8.9 نقطة مئوية في نهاية الربع الثالث من عام 2021، كما تمّ رفع دخل الموظفين في سبيل مكافحة الفقر والحدّ من عدم المساواة. واعتبر آرسي أن هذا النموّ هو نتيجة استئناف الطموح البوليفي الذي أطلقه الرئيس السابق، إيفو موراليس، واستعادته البلاد بعد الانتصار الشعبي الذي هزم الانقلاب. ولفت إلى أنه في الربع الثالث من عام 2020، أثناء إدارة حكومة الأمر الواقع، بلغ الركود 12.6%، وهو انخفاض لم تشهده البلاد منذ ما يقرب من سبعة عقود. وأضاف أن القرارات التي اتّخذتها حكومته ساهمت في الحفاظ على استقرار الأسعار وأدنى معدّل تضخّم في المنطقة، وستسمح للنمو الاقتصادي بتجاوز الستة في المئة خلال عام 2022. كما أشار إلى أن البطالة انخفضت بشكل كبير، حيث أصبحت 5.2% مقارنةً بـ11.6 أثناء إدارة قادة الانقلاب عام 2020. وشدّد على أن الاستمرار في التقدّم نحو مجتمع متساوٍ يوجب على البوليفيين استمرار النضال ضدّ الإمبريالية والرأسمالية والاستعمار الجديد، بمزيد من السياسات الاجتماعية والمزيد من التعبئة والوعي.
* صحافي مقيم في البرازيل متابع لشؤون أميركا اللاتينية