موسكو | استنفر تدهور الأوضاع الميدانية في الشرق الأوكراني، كلّ الأطراف المعنيّين بالأزمة، لتبدأ على إثر ذلك جولة اتصالات ومحادثات، ليس واضحاً منها إلى الآن إلّا تأكيد المشاركين فيها ضرورة الدفْع في اتّجاه وقف إطلاق النار، ومنع مزيد من التدهور في الموقف. لكن، بالتوازي مع تلك التحرّكات، يستمرّ التحشيد العسكري المتضادّ ما بين روسيا والغرب، فيما لا يزال الأخير «يتقصّد علناً التهرّب من التحدّث مع روسيا بشأن مفهوم الأمن غير المجزّأ»، وفق سيرغي لافروف، إلى جانب استمرار تلويحه بـ»العقوبات غير المسبوقة»، وهو ما يعني أن الأزمة لا تزال مفتوحة على سيناريوات مختلفة، ليس مستثنًى من بينها اتّساع دائرة النار، التي يجتمع اليوم ثُلاثيّ بوتين - ماكرون - شولتز، في محاولة لتضييقها وحصرها
عادت خطوط الاتصالات الديبلوماسية لتتسخّن خلال الساعات الماضية، في محاولة لإبعاد شبح الحرب الذي لا يزال يطلّ من الحدود الأوكرانية الروسية. وفيما أُعلن عن محادثات ستجمع اليوم كلّاً من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني، أولاف شولتز، اتّفق كلّ من ماكرون وبوتين، خلال اتّصال هاتفي جمعهما أمس، على ضرورة التوصّل إلى وقف لإطلاق النار في شرق أوكرانيا، وهو ما أيّده أيضاً الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي. وجاءت هذه التحرّكات بعدما كانت أجواء التهدئة قد تلاشت نهاية الأسبوع الفائت، مع اندلاع «مناوشات» عسكرية على جبهة دونباس، حيث تَحقّق بالفعل بعض إرهاصات ما حذّرت منه روسيا في الفترة الماضية، من نيّة كييف استعادة دونباس بالقوّة، وذلك بعد أن بدأ الجيش الأوكراني قصفاً على مناطق مختلفة من الإقليم، في انتهاك واضح لوقف إطلاق النار، ليكون السكّان المحلّيون ضحية خطوات «متهوّرة» وفق وصف موسكو، أدّت إلى نزوح نحو 40 ألف مواطن إلى روسيا حتى يوم أمس، مع ترجيح أن يصل العدد إلى نحو 700 ألف.

ولم يُفهم بعد ما الذي دفع الأوضاع في المنطقة إلى حافّة الحرب، لكن الواضح أن كييف تحاول الهرب خطوة إلى الأمام، عبر تشتيت المطالب الغربية الضاغطة عليها للسير قُدماً بـ»اتفاقات مينسك»، في مسعًى لتهدئة الوضع مع موسكو. ومع ذلك، تجدّدت الاتهامات لروسيا بأنها تستعدّ «لأكبر حرب في أوروبا منذ عام 1945»، بحسب رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، فيما قال البيت الأبيض إن «روسيا تستعدّ لغزو أوكرانيا في أيّ وقت». أمّا موسكو فواصلت التأكيد أن «إصرار كييف على رفض تطبيق اتفاقات مينسك هو الذي يقف وراء الجمود في تسوية نزاع دونباس»، وفقاً لما أبلغه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، لنظيره الفرنسي في اتصال هاتفي. وحمّل لافروف، ألمانيا وفرنسا، مسؤولية تنصّل كييف من التزاماتها، و»حشدها قواتها عند خطّ التماس في دونباس، وإطلاقها حملة لعسكرة الناس، ومواصلتها استفزازاتها باستخدام السلاح». كما جدّد التحذير من أن تجاهل الحقوق المشروعة لروسيا في المجال الأمني «لا يؤثّر سلباً ليس على الاستقرار في القارّة الأوروبية فحسب، بل على العالم برمّته أيضاً». وفي هذا السياق أيضاً، برز موقف لافت للمستشار الألماني، أكد فيه استعداد الدول الغربية لإجراء مفاوضات مع روسيا حول المسائل الأمنية، وحثّ على استخدام كلّ القنوات الديبلوماسية لتسوية الخلافات.
من جهته، جدّد الرئيس الأوكراني دعوة نظيره الروسي إلى عقْد اجتماع والسعْي لحلّ الأزمة. وأكد زيلينسكي أن أوكرانيا ستواصل اتّباع «المسار الديبلوماسي فقط». لكن هذه الدعوة لم تلقَ صدًى في موسكو، التي شدّدت مراراً على أن الحلّ يكون بجلوس كييف مع ممثّلين عن دوينتسك ولوغانسك، للمُضيّ قُدُماً في تطبيق «اتفاقات مينسك»، فيما تكون موسكو، كما باريس وبرلين، ضامناً وليس طرفاً. إلّا أن الواضح أن كييف تُواصل اتّباع سياسة موارِبة حيال تلك الاتفاقات؛ إذ بحسب مصادر روسية تحدّثت إلى صحيفة «كومرسانت»، فقد قدّمت أوكرانيا إلى «مجموعة الاتصال» وثيقة من ثماني صفحات تتضمّن تعديلات على الدستور الأوكراني من حيث اللامركزية. ولفتت المصادر إلى أن خلافاً قد يقع جرّاء ذلك؛ لأن الاقتراح الأوكراني لا يحتوي كلمة واحدة عن وكالات إنفاذ القانون، على رغم أن «منيسك» تنصّ على أن لجمهوريَتي دونتسك ولوغانسك الحقّ في أن تكون لهما قوات أمنية خاصة. بناءً عليه، يبدو أن كييف لا تزال ترفض، لاعتبارات داخلية، تنفيذ الاتفاقات المتّصلة بالشرق الأوكراني، فيما يَظهر أن الضغوط الغربية عليها، إن وُجدت فعلاً، لم تنجح في تغيير موقفها.
قرّرت روسيا وبيلاروس مواصلة اختبار جاهزية قواتهما بعدما كانت موسكو أعلنت انتهاء المناورات


في المقابل، وإذ اعتبر لافروف أن الخوف من التدخّل الروسي يمنع الأوكران من شنّ هجوم واسع النطاق، يرى المحلّل العسكري لصحيفة «إزفيستيا»، أنطون لافروف، أنه «لا ينبغي أن تكون هناك أوهام بأن بعض المساعدة العسكرية المحدودة من روسيا ستكون قادرة على ضمان أمن جمهوريَتي الدونباس، لأن هناك تفاوتاً في القدرات مع القوّات المسلّحة الأوكرانية التي تتمتّع الآن بميزة عددية وتقنية ساحقة على الجمهوريتيَن». لكن يبدو أن موسكو لن تكتفي بذلك؛ إذ أعلنت وزارة الدفاع البيلاروسية أن بيلاروس وروسيا قرّرتا مواصلة اختبار الجاهزية، على خلفية تواصل الأنشطة العسكرية قرب حدود البلدين وتفاقم التوتر العسكري في دونباس. وذكرت الوزارة أن التدريبات المشتركة الجارية أظهرت أن مينسك وموسكو لديهما بنية تحتية جاهزة للردّ السريع على التهديدات العسكرية. وجاء هذا بعدما كانت روسيا قد أعلنت أنها ستسحب قواتها المشاركة في المناورات بعد انتهائها (وهو ما كان يفترض أن يتمّ أمس)، في ما مثّل رسالة تهدئة من قِبَلها، قبل أن يعود الموقف ليتفجّر مجدّداً.


وترافقت هذه التطوّرات مع رسائل عسكرية من روسيا، حيث حضر بوتين، أول من أمس، مع نظيره البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، تدريبات لقوات الصواريخ النووية الاستراتيجية الروسية. وأعلن الكرملين أن روسيا أجرت بنجاح تجارب إطلاق صواريخ تفوق سرعة الصوت وصواريخ كروز في البحر على أهداف برّية، خلال مناوراتها العسكرية. كذلك، وقّع بوتين مرسوماً يقضي باستدعاء الاحتياط من المواطنين الروس للتدريب العسكري. في المقابل، أعلن وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، أن بلاده مستعدّة لإرسال قوات إضافية إلى شرق أوروبا لـ»تعزيز أمن» أعضاء حلف «الناتو»، في حال تصاعد التوتر حول أوكرانيا. ومن جهته، يستعدّ «الناتو» لتعزيز وجوده في دول جنوب شرقي أوروبا، عبر نشر وحدات عسكرية إضافية في رومانيا وبلغاريا، إضافة إلى وحدات المشاة والدبابات، كما سيرسل أنظمة صواريخ إلى هذه البلدان، من أنواع قادرة على أن تشكّل خطراً على روسيا، بحسب خبراء عسكريين روس.
وعلى رغم ضجيج الحرب السائد، تُواصل الخطوط الديبلوماسية عملها على أمل إيجاد حلول توقف التصعيد القائم، لكن الأجواء لا توحي بأن تسوية للأزمة قد نضجت بعد بين روسيا والغرب، لتبْقى تطورات الميدان في دونباس مقياساً لما ستؤول إليه المواجهة القائمة.