بغداد | ما حصل في العراق خلال الأيام القليلة الماضية ليس انهياراً فحسب، بل مؤشر حقيقي على فشل الدولة في توفير الأمن والخدمات للمواطنين، وتقاعس عن حماية الشعب ومقدرات الدولة وثرواتها الطبيعية. كيف ولماذا؟ أسئلة لم تجب عنها الحكومة حتى اللحظة، لكن المعطيات تؤكد وجود تراكم سلسلة من الأخطاء، فولدت انهياراً غير مسبوق لجيش قوامه 600 ألف مقاتل، تنفق عليه الحكومة 5.6 مليارات دولار سنوياً. ويؤكد خبراء استراتيجيون أن الحكومة تخصص كل عام 3 مليارات دولار للتسليح، ومثلها من الموازنة التشغيلية للمرتبات والنفقات اليومية، فضلاً عن مليار دولار تخصص من موازنة الطوارئ لوزارة الدفاع، يجري في العادة إنفاقها بشكل كامل، بالنظر إلى الوضع الأمني غير المستقر في العديد من مناطق العراق.

ويقول الخبير الاستراتيجي د. هشام الهاشمي إن الجيش العراقي يتكوّن من 15 فرقة، يتراوح عدد عناصر كل فرقة من 12 إلى 15 ألف مقاتل، ما عدا طائرات الجيش والبحرية والقوة الجوية والأمن والاستخبارات والانضباط، فيكون المجموع الكلي ٦٠٠ ألف مقاتل، وهو عدد كان كافياً لإحباط أي مؤامرة أو هجوم يتعرض له العراق، «لولا ضعف الروح العسكرية، والفساد المالي للضباط، والهروب المبكر لضباط قيادة عمليات نينوى».
ويعرض د. الهاشمي أبرز أسباب هزيمة القوات الأمنية قائلاً: «الهزيمة تتمثل في اعتماد القادة العسكريين على أحزابهم السياسية في التبرير لهم والدفاع عنهم، وإهمال المسؤولية العسكرية، والانشغال بالألاعيب والابتزاز لجمع المال وانفلاتهم الأخلاقي».
وفيما أورد العديد من وسائل الإعلام المحلية أنباءً عن اختفاء نائب أركان الجيش الفريق الركن عبود كنبر، وقائد القوات البرية الفريق الركن علي غيدان، عقب الانسحاب من الموصل، نفى الاثنان غيابهما عن الساحة، مؤكدين أنهما يزاولان مهماتهما في بغداد منذ مساء الثلاثاء الماضي، الذي أُعلن فيه سيطرة «داعش» على جميع أرجاء الموصل، ولم تُلق الحكومة حتى الآن أي لوم عليهما.
وكان كنبر وغيدان قد عادا مساء الثلاثاء إلى بغداد من أربيل جواً عن طريق مطار بغداد الدولي. ولما سئل المعنيون في المطار عن سبب السماح لهما بالمرور رغم الحديث عن تآمرهما على تسليم الموصل، أجابوا بأنه لا توجد مذكرة اعتقال بحقهما. وبالفعل، ارتدى الاثنان بزتيهما العسكريتين في اليوم التالي وذهبا الى مكتبيهما بشكل عادي من دون أي استفسار منهما عما حصل.
ويرى الخبير العسكري علي النور أن الانهيار غير مرتبط بسبب واحد، بل بتراكم أخطاء عسكرية وسياسية، إلى جانب «فشل الدولة في تطويق الفساد ومنح المواطنين الأمن والخدمات».
ويقول النور لـ«الأخبار» إن ما حصل في الموصل ليس منتهى الفساد، بل «ما انتهى إليه كل فساد العراق منذ 2003»، موضحاً أن ما حصل هو نتيجة ضعف الاستشارة الأمنية، والمحاصصة الطائفية في المناصب الأمنية، وعدم جدية الساسة في بناء الدولة بعد عام 2003». وأضاف أن «الفساد تمأسس في العراق، فمن الطبيعي أن يكون الجيش ضمن منظومة الفساد الكبيرة لمسؤولين يسترزقون منه، ولا يؤدون واجبهم، يبيعون الوقود والآليات والسلاح، ويهرّبون السجناء، ويبتزون الناس»، مشيراً إلى غياب العقيدة عن الجيش، إذ يبيّن أن «الجيش العراقي غير عقائدي، والطائفية عقيدته الوحيدة».

خبير عسكري:
المالكي بلا شك نادم على تدميره قوات الصحوات
وتابع أن الجندي صار غير معني بالدفاع عن مدينة سنيّة، إذا افترضنا أنه شيعي، والعكس صحيح؛ فالعقيدة الأمنية هي مزيج من العواطف والشد الفكري الذي يفتقده الجيش، بالرغم من أن أفراده يتسلمون مرتّبات أكثر من أستاذ جامعي.
وقال النور إن «الجندي العادي يصل مرتبه إلى 1300 دولار وما فوق، بينما الأستاذ الجامعي لا يتقاضى سوى 1000 دولار»، فضلاً عن أن الضباط برتبة لواء وما فوق يتسلمون أكثر من 6 آلاف دولار، أي أكثر من وكيل الوزير الذي يتقاضى نحو 5 آلاف دولار، لكنه «بقي للأسف دون عقيدة بسبب ما آلت إليه الأمور في العراق». ويزيد: «مشاكل التسليح والشعارات الفارغة، التي أدت إلى إخراج الأميركيين من دون أن يكون هناك بديل، هي الأخرى كانت خطأً كبيراً»، لافتاً إلى تفاقم ظاهرة «الجنود الفضائيين»، (عناصر مسجّلين في الجيش من دون أن يكلّفوا بأي مهمات أو حضور إلى المعسكر، مقابل تقاضي الضابط المسؤول عنه نصف مرتبه)، بعلم المسؤولين الكبار في مكتب القائد العام للقوات المسلحة، وأعضاء مجلس النواب، من دون معالجة الأمر.
ولفت الخبير العسكري إلى أن ما حصل في العراق هو انعكاس لمنطقة قلقة، وتاريخ أكثر قلقاً، وثروات متعاظمة تحولت كلها إلى محاصصة زبائنية، مستبعداً أن تضمن مساعدة الجيش الأميركي أو أي مساعدة دولية للقوات العراقية حل الأزمة الأمنية ما لم يتم حل الأزمات في المنطقة كافة.
وقلل النور من تداعيات انهيار الجيش بهذه السرعة، متوقعاً أن تتم استعادة المناطق التي احتلها «داعش».
وكان رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي أعلن بدء تشكيل جيش رديف، وإعادة هيكلة الجيش، وإعادة تقييم الخطط، بعد فشل القادة الميدانيين في إدارته.
وفي هذا الإطار، اعتبر الخبير العسكري هذه الخطوة «شبيهة بتشكيل الجيش الشعبي العراقي إبان الحرب العراقية الإيرانية، لكنها تختلف هذه المرة بكونها طوعية وليست إجبارية»، لافتاً إلى أن هذه الخطوة يمكن استثمارها بالشكل الصحيح، لتفادي تشكيل أي ميليشيات طائفية، أو لجان شعبية خارج إطار الحكومة.
ورأى أن «المالكي بلا شك الآن نادم على تدميره قوات الصحوات التي شكلت رديفاً مهماً للجيش العراقي في الأعوام الماضية، وفي المناطق المحتلة من قبل «داعش» في الوقت الحالي تحديداً».
وبدأت مراكز ومعسكرات أمنية بتسجيل المتطوعين للانخراط في قتال «داعش»، من محافظات الجنوب والفرات الأوسط وبغداد، إذ تؤكد أنباء غير رسمية عن تسجيل أكثر من 16 ألف متطوع حتى الآن من محافظات الجنوب والفرات الأوسط.



بالأرقام

في معرض مقارنتها بين الجيش العراقي وقوات «داعش»، اعتبرت صحيفة «ذي غارديان» البريطانية، أنه كان يجب على الجيش العراقي أن يكون أكثر فعالية، وخصوصاً بوجود حوالى 250 ألف جندي على الخطوط الأمامية (من دون تعداد وحدات الشرطة شبه العسكرية).
وفي هذا الإطار، أشارت الصحيفة إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها أنفقوا حوالى 25 مليار دولار لتدريب وبناء الجيش العراقي من جديد بعد تفككه إثر سقوط النظام العراقي في عام 2003. وأوضحت أن الجيش مجهز بـ 400 دبابة على الأقل، و2500 مدرعة قتالية و278 طائرة عسكرية، من ضمنها طائرات من دون طيار، وطائرات نقل و129 مروحية.
وأضافت إنه على الرغم من القوى المكونة والمعدات والمبالغ الهائلة التي استثمرت فيه، إلا أن الجيش العراقي عانى من عدم استعداده على المستوى القتالي، في الوقت الذي يكافح فيه لجذب عدد أكبر من المجندين في سبيل الحفاظ على فعاليته.
وفي ما يتعلق بـ«داعش»، ذكرت «ذي غارديان» نقلاً عن تقديرات غير رسمية، أن القوة القتالية لدى «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، تصل إلى حوالى 7 آلاف عنصر، مضيفة «من الواضح أن داعش في العراق تلقى دعماً من قبل مجموعات أخرى، من بينها مقاتلون محليون وعناصر من حزب البعث العراقي، وخصوصاً في تكريت».
وأضافت الصحيفة إن المعدات التي يملكها «داعش» عادة، هي سيارات «تويوتا» وقاذفات «آر بي جي»، إضافة إلى أسلحة خفيفة. ومن خلال العملية الأخيرة، فقد تمكن من الاستيلاء على مدرعات. كما أشارت إلى احتمال أن يكون قد تم إرسال بعض المعدات التي استولى عليها، إلى سوريا. في الإطار ذاته، تحدثت الصحيفة عن قوة البشمركة المؤلفة من حوالى 35 ألف عنصر من الأكراد، والمنضوية تحت لواء القوات العراقية. لكنها أشارت إلى أن هناك حوالى 80 ألف عنصر أو أكثر من ذلك بثلاثة أضعاف، يعملون خارج إطار القوات الأمنية العراقية.
وفي هذا السياق، ذكرت الصحيفة أنه منذ حوالى سنتين، أعلن مسؤول كردي أن عدد قوات البشمركة، يصل إلى حوالى 190 ألفاً، مضيفة إن هذه القوات مجهزة تجهيزاً جيداً، إضافة إلى أنها مدربة وتمتلك خبرة قوية.
(الأخبار)