موسكو | يتكثّف الحراك الدبلوماسي على خطّ الأزمة الأوكرانية، بهدف تهدئة الوضع ومْنع انزلاق جميع الأطراف إلى تصعيد غير محسوب النتائج. وفيما يستمرّ الغرب في العزف على «سمفونية» الغزو الروسي القريب لأوكرانيا، ملوّحاً في الوقت نفسه بسيْف العقوبات على النُّخبة الروسية، تُواصل روسيا البعْث برسائل الطمأنة في شأن نواياها، وسْط مواقف لافتة لفولوديمير زيلينسكي، تدْحض بدورها سردية الغزو، وهو ما يُقرأ في موسكو على أنه مؤشّر يمكن البناء عليه، في توقُّع اتّجاه زيلينسكي نحو تطبيع العلاقات مع جارته. أمّا في ما يتّصل بخطط واشنطن لتوفير إمدادات الطاقة لأوروبا، فلا يبدو أنها ستسلك سبيلها إلى التنفيذ، في ظلّ تحفّظ قطري متعدّد الأسباب، ومحدودية الجدوى المتوقّعة من ذلك أصلاً، حتى في حال تَحقّقه
لم يهدأ هاتف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، طوال الأيام الماضية، بعد الردّ الأميركي و«الأطلسي» على ورقة الضمانات التي طالبت بها موسكو. وفيما يَنتظر العالم قرار بوتين في شأن ردّ بلاده على تلك الأجوبة التي «لم تُراعِ مصالح موسكو»، تصدّرت الأزمة أجندة المحادثات الهاتفية بين بوتين ونظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراغي، في حين يُتوقّع أن يبحثها هاتفياً أيضاً مع رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، في موعد كان مقرَّراً أمس. وبينما دعا دراغي، بوتين، إلى «خفْض التصعيد نظراً إلى التداعيات الخطيرة التي قد يتسبّب بها تفاقم الأزمة»، يُرتقب ما سيسفر عنه الاتصال بين وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ونظيره الأميركي، أنتوني بلينكن، بهذا الخصوص، علماً أن المعلَن أمس اقتصر على تأكيد لافروف أن «الغرب يحاول أن يتناسى تماماً مبدأ عدم تجزئة الأمن»، وتشديد بلينكن على ضرورة «إجراء مزيد من المحادثات بشأن الضمانات الأمنية». وكانت واشنطن استبقت الاتصال بإعلانها تسلّم رسالة خطّية من موسكو، تتضمّن ملاحظات الكرملين على الجواب الخطّي الذي سلّمته الأولى للأخيرة الأسبوع الماضي. لكنّ الكرملين نفى ذلك سريعاً، مؤكداً، على لسان المتحدّث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، أنه «لم يتمّ إرسال الردّ الروسي حول الموضوع الرئيس في الوقت الحاضر، ولكن يجري إعداده»، في وقت نفت فيه وزارة الخارجية الروسية، بدورها، أن تكون موسكو قد سلّمت واشنطن أيّ ردّ.
في هذا الوقت، يُواصل الغرب العزف على سمفونية «الغزو الروسي القريب لأوكرانيا»؛ إذ لفتت المندوبة الأميركية في مجلس الأمن، ليندا توماس-غرينفيلد، خلال جلسة لبحث الأزمة الأوكرانية، إلى أن موسكو قامت بنشر أكثر من 100 ألف جندي روسي على الحدود مع أوكرانيا، معتبرةً أن ذلك الحشد «يهدّد الأمن الدولي». إلّا أن المندوب الروسي، فاسيلي نيبينزيا، جدّد التأكيد أن بلاده لن تغزو جارتها، متّهماً الولايات المتّحدة بأنها تريد «خلْق حالة من الهستيريا» و«خداع المجتمع الدولي باتهامات لا أساس لها»، متسائلاً عن الأساس الذي يستند إليه الغرب في تأكيد وجود أكثر من 100 ألف جندي روسي على الحدود الأوكرانية. وعلى خطٍّ موازٍ، يواصل الغرب تقديم الدعم السياسي والعسكري لكييف، وآخر وجوهه وصول رئيس الوزراء البريطاني، والبولندي ماتيوش مورافسكي، إلى العاصمة الأوكرانية، أمس، لتأكيد دعمهما لحليفهما.
أعلن زيلينسكي أن الدعم العسكري والدبلوماسي الغربي لبلاده بلغ أعلى مستوى له منذ أزمة شبه جزيرة القرم

وتتصدّر بريطانيا قائمة الدول الأوروبية التي تهاجم روسيا على خلفية الأزمة، حيث دعا مكتب جونسون «روسيا إلى التراجع والدخول في حوار للتوصّل إلى حلّ دبلوماسي وتجنُّب المزيد من إراقة الدماء». كما أعلن رئيس الحكومة البريطاني، السبت الماضي، أن بلاده ستقترح على «حلف شمال الأطلسي» نشْر قوّات وأسلحة وسفن حربية وطائرات مقاتلة في أوروبا، في إطار عملية انتشار عسكري «كبيرة»، ردّاً على ما سمّاه تصاعُد «العداء الروسي» تجاه أوكرانيا. وترافَق الإعلان المتقدّم مع كشْف الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أن الدعم العسكري والدبلوماسي الغربي لبلاده بلغ أعلى مستوى له منذ أزمة شبه جزيرة القرم في عام 2014، بتلقّي كييف نحو 500 طنّ من الذخائر والمعدّات العسكرية من الولايات المتحدة في الأيام الأخيرة، فضلاً عن إعلان عدّة دول غربية إرسال وحدات عسكرية جديدة إلى أوروبا الشرقية.
على رغم ما تَقدّم، يبدو أن ثمّة تبايُناً في التعامُل مع الأزمة بين كييف وواشنطن، وهو ما ظهر في الاتصال الهاتفي الأخير بين زيلنسكي والرئيس الأميركي، جو بايدن، إذ اعتبر الأوّل أن الحديث عن «غزو روسي» لبلاده مبالَغ فيه، محذّراً من أن تداعياته على الاقتصاد الأوكراني كبيرة، وداعياً إلى الكفّ عنه، وهو موقف كان له صداه في موسكو، حيث اعتَبره خبراء تأكيداً للرواية الروسية لما يحصل. وفي هذا الإطار، اعتَبر النائب الأوّل لرئيس لجنة الشؤون الدولية في «مجلس الاتحاد للشؤون الدولية»، فلاديمير دجباروف، أن «الصراع بين روسيا وأوكرانيا يحتاج إليه في المقام الأوّل الأميركيون، وسوف يجنون منه فوائد معيّنة». ورأى دجباروف أن «أوكرانيا، على خلفية هذا التوتّر، ستبقى وحيدة، ولا أحد سيهتمّ بما سيَحدث للأوكرانيين»، مضيفاً أنه «إذا فهم زيلينسكي ذلك، فلديه الفرصة لاتّخاذ الخطوات الأولى نحو تطبيع العلاقات مع موسكو». وشدّد على أن «أولى الخطوات لتحقيق هذا التقارب، هو أن تبدأ الحكومة الأوكرانية في التواصُل مباشرة مع ممثّلي جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك على النحو المنصوص عليه في اتفاقات مينسك»، متابعاً أن «هذا المسار هو تحديداً ما يرفضه زيلنسكي الذي تعرّض لضغوط أميركية كبيرة للمشاركة في اجتماع المستشارين السياسيين لرؤساء النورماندي في باريس الأسبوع الماضي، والذي دعا إلى إعادة دراسة مخرجات اتفاقات مينسك، على أن تعود الأطراف للاجتماع في برلين الأسبوع المقبل»، موضحاً أن «زيلنسكي يخشى أن يقدّم أيّ تنازُل في ما يتعلّق باتفاقات مينسك، خشية تصاعد هجوم المعارضة الراديكالية عليه. ولكن على رغم ذلك، كشف زيلنسكي أن بلاده تبحث موعد محادثات السلام المقبلة مع روسيا بمشاركة فرنسا وألمانيا».
في ظلّ هذه الأجواء، يتواصل تلويح الغرب بفرْض عقوبات على روسيا. وفيما كشفت الناطقة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، أن بلادها أعدّت «عقوبات تستهدف أفراداً من النخبة الروسية وعائلاتهم»، أعلنت وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تراس، أن الحكومة ستقدّم مشروع قانون جديداً يرمي إلى تشديد حزمة العقوبات التي يمكن أن تفرضها لندن على موسكو، والتي قد تطاول «الأوليغارشية» الروسية الموجودة في لندن، وهو ما رأت فيه روسيا خدمة «مجّانية» لها، كونه سيجعل المستثمرين الروس يعيدون النظر في إمكانية استثمار أموالهم في الاقتصاد الروسي، بدل ضخّها في دول تشكّل خطراً عليهم. أمّا في ما يتعلّق بخطط واشنطن لتوفير إمدادات الطاقة لأوروبا، فلا يبدو أنها ستؤدّي إلى نتيجة، في ظلّ استبعاد مصادر دبلوماسية قطرية أن تتمكّن الدوحة من تقديم شيء على نطاق واسع في هذا المجال، والسبب في ذلك لا يكمن فقط في عدم رغبتها في خلْق مصدر إزعاج مصطنع في العلاقات مع موسكو، ولكن أيضاً بسبب الصادرات إلى الأسواق الآسيوية.