الخرطوم | فعلها عبدالله حمدوك ورمى استقالته من رئاسة الحكومة الانتقالية في توقيتٍ صعب يعاني فيه السودان أزمة سياسية متصاعدة، ساهم الرجل فيها من حيث يدري أو لا يدري، بعد اتّفاقه مع العسكر في تشرين الثاني الماضي إثر انقلاب 25 تشرين الأول. حمدوك، الذي حاول من خلال تسريب نيّته الاستقالة في الأسبوع الماضي، الضغط على القوى السياسية لتسهيل مهمّته في تشكيل حكومة تكنوقراط جديدة، فشل في التوصّل إلى مراده، ما دفعه إلى الإقدام على خطوة ستكون لها تبعاتها، في وقت لا يبدو فيه أن الشارع المعارِض للانقلاب سيقبل بأيّ حلّ يكون للعسكر دور فيه
أخيراً، حسم عبدالله حمدوك موقفه، مُقدِّماً استقالته من رئاسة الحكومة السودانية، في خطاب إلى الشعب بمناسبة ذكرى الاستقلال، تضمّن جردة لسنتَين من عمل الرجل، منذ 21 آب 2019. حمدوك، ألقى باللوم بشكل مباشر على القوى السياسية والمدنية، وبشكل غير مباشر على المكوّن العسكري، في إفشال عمله في رئاسة الحكومة وحكومته. وفيما حذّر من «خطورة الانقسام الذي يهدّد المجتمع السوداني»، و«انسداد أفق الحوار بين الجميع»، وهو ما أدى إلى جعْل «مسيرة الانتقال هشّة ومليئة بالعقبات والتحدّيات»، عاد ليدافع عن توقيعه على الاتفاق السياسي مع رئيس «المجلس السيادي»، عبد الفتاح البرهان، عادّاً إيّاه «محاولة لإعادة مسار التحوّل المدني الديموقراطي وحقن الدماء وإطلاق سراح المعتقلين والمحافظة على ما تَحقّق من إنجازات في العامين الماضيين، والتمسّك بالوثيقة الدستورية الحاكمة للانتقال»، مضيفاً أن الاتفاق «محاولة أخرى لجلب الأطراف إلى طاولة الحوار، والاتفاق على ميثاق لإنجاز ما تبقّى من الفترة الانتقالية وفق أهداف محدَّدة ومعلومة للجميع». وشدّد حمدوك على أن «هناك حاجة إلى حوار حول مائدة مستديرة للتوصّل إلى اتفاق جديد على الانتقال السياسي إلى الديموقراطية في السودان».
اعتبر البعض استقالة حمدوك هدية للعسكر للاستفراد بالحكم


تقلّبات عامَين ونيّف
لم يكن التكنوقراطي عبدالله حمدوك معروفاً في الفضاء السياسي السوداني، قبل أن يرشّحه معتز موسى، رئيس الوزراء في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير، عام 2018، لتولّي منصب وزير المالية، ليعتذر الأوّل بهدوء آنذاك، ودونما ضجيج. وفي أعقاب سقوط البشير، أنفق حمدوك نحو عامَين ونيّف في رئاسة الحكومة، حيث اتّسم أداؤه بالميل نحو التسويات والصفقات، وهو ما يجلّيه طرْحه عدّة مبادرات أهمّها المعروفة بـ«الطريق إلى الأمام»، والتي لم تجد قبولاً لدى الأحزاب السياسية الداعمة له، ولا لدى شريكها، المكوّن العسكري، ولا في صفوف «القوى الثورية» المتمثّلة في «لجان المقاومة» والنقابات، وتحديداً «تجمّع المهنيين». الرجل الذي وجد قبولاً شعبياً لافتاً عقب تولّيه رئاسة الوزراء في عام 2019، على رغم أنه لم يشارك في الحراك ضدّ البشير ولو بكلمة، شهد عهد القصير إخراج البلاد من «قائمة الدول الراعية للإرهاب»، وإعفاءها من أكثر من 90% من ديونها البالغة نحو 60 مليار دولار. كذلك، شهد عهده إبرام اتفاق مع بعض الحركات المسلّحة المتمرّدة في مدينة جوبا، عاصمة جنوب السودان، في 3 تشرين الأول 2020، فيما خلا من القدرة على تحقيق الحدّ الأدنى من الوفاق الداخلي بين القوى المدنية والعسكرية. وعلى إثر توقيع حمدوك المفاجئ والمنفرد على اتفاق سياسي مع قائد الانقلاب، عبد الفتاح البرهان، أعيد بموجبه إلى منصبه في رئاسة الحكومة، ثارت بوجهه عاصفة غضب بتهمة إضفاء الشرعية على الانقلاب، ولذا، فقد كانت استقالته تحصيلَ حاصل.

تعقيدات الواقع
وفيما اعتبر البعض استقالة حمدوك عودة إلى الوراء وانزلاقاً نحو المجهول وهدية للعسكر للاستفراد بالحكم من دون تشويش، عدّها آخرون نزْعاً لآخر ورقة توت مدنية يتدثّر بها الانقلابيون، وفاتحة لصراع واضح وحاسم معهم. واللافت أن كلّاً من «تجمّع المهنيين» و«لجان المقاومة»، الكيانَين اللذين يقودان الحراك ضدّ الانقلاب، لم يعلّقا على استقالة رئيس الوزراء، وواصلا دعوة السودانيين إلى الخروج في الاحتجاجات من أجل إسقاط الجنرالات وحلفائهم. ويَعتبر الصحافي والمحلّل السياسي، محمد عبد الباقي فضل السيد، أن «استقالة رئيس الوزراء الحقيقية كانت لحظة إبرامه اتفاق 21 تشرين الثاني مع قائد الانقلاب، فقد كانت كارثة سياسية وسوء تقدير أغلق المشهد السياسي أكثر مما فتحه». ويضيف فضل السيد، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «استقالة حمدوك تعني إزاحة اللافتة المدنية عن الانقلاب، بما يجعله في أقصى حالات ضعفه وتَفكّكه، وبالتالي فإن الطريق إلى إسقاطه أصبح أمراً وارداً أكثر من أيّ وقت مضى». ويرى أن حمدوك باستقالته «سيكشف العسكر أمام الثوار والمجتمع الدولي، وتحت الضغط المتواصل سيبتعدون، وإن كانت الكلفة المزيد من إراقة الدماء».
من جهته‏، ينبّه المحلّل السياسي في «مركز السودان لتحليل السياسات»، الأمين السماني، إلى أن «أيّ قراءة تعسّفية لما بعد استقالة حمدوك قد لا تخدم الحقيقة في شيء»، مضيفاً، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «استسلاماً سريعاً للعسكر وانسحابهم من المشهد بسلاسة، يُعتبران حلماً ثورياً مثالياً، لكنّ الواقع أكثر تعقيداً من شعارات الثورة». وحول الخيارات في مواجهة «المجلس السيادي»، يشدّد السماني على ضرورة تحقيق «توافق عريض وجبهة شعبية موحّدة، وصولاً إلى تأسيس سلطة مدنية ديموقراطية حقيقية تستكمل مهام الثورة، بناءً على ما تَحقّق في العامَين المنصرمين». ويلفت إلى أن ما قاله حمدوك في خطابه حول الحاجة إلى حوار للتوصّل إلى اتفاق جديد للانتقال السياسي، «صحيح ومطلوب ولا بديل عنه»، متابعاً أن مشكلة السودان «بنيوية وهيكلية، تكتنفها تناقضات عميقة بين المكوّنات السياسية والمدنية والعسكرية والاجتماعية، لذلك فإن أيّ ثورة أو هبّة شعبية بلا ميثاق سياسي وتصوّرات وبرامج وخطط لإدارة مرحلة ما بعد إطاحة النظام القائم، مصيرها الفشل والتراجع والهزيمة مجدداً، فإمّا توافق وميثاق أو ضياع أبدي ولا دولة».