كما في حياته، كذلك في مماته، كان حسن إيرلو استثنائياً. فهو ظلّ حتى لفَظ أنفاسه الأخيرة متأثّراً بإصابته بفيروس «كورونا»، يُصارع مشروع الهيمنة الأميركي في المنطقة. عندما أصيب بـ«كورونا»، وساءت حالته في صنعاء، حيث عُيّن سفيراً للجمهورية الإسلامية، كابد إيرلو عناء الحصار السعودي المفروض على اليمن، كواحد من أبناء البلد الواقع تحت عدوان مستمرّ منذ العام 2015. لم تسمح السعودية بنقله إلى طهران، إلّا بعدما ضَمِنت أنه دخل في مرحلة الموت المحتّم، كما يقول عارفوه، وهم كُثر في أنحاء اليمن.يُعتبر إيرلو من أوائل القادة الميدانيين الذين ساهموا في بناء قدرات «محور المقاومة»، بدءاً من لبنان، الذي قَدِم إليه مع بزوغ فجر الثورة الإسلامية في إيران، وعاش فيه نحو 22 عاماً، حتى صار واحداً من أبنائه، ينطق بلغتهم، بل ويتقن لهجاتهم، خصوصاً «البعلبكية»، ويَحفظ تقاليدهم وعاداتهم وأمثالهم الشعبية. «العِشرة» الطويلة هذه، نسجت علاقة خاصة بينه وبين كلّ قادة المقاومة الإسلامية في لبنان، الأحياء منهم والشهداء، فهو له حكايات وقصص مع الكثيرين منهم. يَحكي عارفوه عن بصمات حقيقية وفعلية تركها الراحل في مسار نهضة المقاومة في لبنان، حتى صحّ فيه القول إنه «أحد شركاء التحرير ودحر الاحتلال الإسرائيلي»، الذي خاض معه عمليات كرّ وفرّ في جبهات الجنوب وغيرها، ما عرّضه مرّات كثيرة وفي مواقع مختلفة لقصف إسرائيلي كاد يودي بحياته قبل إكماله مهامه.
بعد لبنان، وجّه إيرلو بوصلته صوب اليمن، حيث استلم في فترة «الربيع العربي»، الملفّ اليمني برمّته في «قوة القدس» التابعة للحرس الثوري الإيراني. ومن هناك، بدأ مشواره اليمني الحافل. يقول المقرّبون منه إنه عمل على وضع إحاطة شاملة حول هذا البلد، لا تستثني أيّاً من الجوانب الدينية والاجتماعية/ القبَلية والاقتصادية، وحتى الطبائع العامّة والعلاقات بين الناس. تَميّز إيرلو بكثرة الاطّلاع والمطالعة، فصار خبيراً بدقائق الأمور والتفاصيل الميدانية التي تتعلّق بالجبهات والخدمات، كما بأيّ موضوع يَهمّ اليمنيين، الذين باتوا يَعتبرونه «قائداً يمنياً بامتياز»، خصوصاً أن نشاطه لم يقتصر على صنعاء ومحيطها، بل امتدّ إلى أنحاء البلاد كافة، حيث كانت له سابقاً مساهمات في جهود «الحراك الجنوبي»، بوجْه سياسات نظام علي عبدالله صالح المجحفة.
قبل دخول «أنصار الله» صنعاء، نشط إيرلو بشكل كبير، وعكف على محاولة كسْر ما أوجدته السعودية والولايات المتحدة من حواجز بين «محور المقاومة» واليمنيين، مستفيداً من الفراغ السياسي الذي نشأ بعد إزاحة الرئيس الراحل، علي عبدالله صالح. يكشف عارفو الرجل أنه أعدّ خطّة «لربْط عواصم المحور»، تقوم على توجيه دعوات إلى وزراء ونواب سابقين وحاليين، وأعضاء نقابات المهن الحرّة والفلاحين والمعلّمين وكل قطاعات المجتمع، من أجل تبادل الزيارات بين تلك العواصم (طهران ودمشق وبيروت بشكل رئيس)، في محاولة لـ«ربط الشعب اليمني بحاضنته الطبيعية - المقاومة ومحورها -، وخلْق حالة تفاعلية وتبادلية بين صنعاء» وبقيّة أقطاب هذا المعسكر.
أعدّ إيرلو خطّة لكسْر ما أوجدته السعودية وأميركا من حواجز بين «محور المقاومة» واليمنيين


وعلى رغم أن الراحل كان عضواً في الحرس الثوري الإيراني، وأحد جرحى الحرب الإيرانية - العراقية، وشقيق شهيد فيها، إلّا أن نشاطه في اليمن لم يكن عسكرياً ولا استخباراتياً، بل ظلّ سياسياً وإنسانياً بالدرجة الأولى. فمع اندلاع الحرب، كثّف اهتمامه بالملفّات الإنسانية، وأنشأ خطّاً حقوقياً لمواجهة العدوان، بالتعاون مع المجتمع المدني اليمني، ومنظّمات أخرى. كما شغل «الحاج حسن» عضويّة لجنة مركزية إيرانية تَضمّ جهات عدّة، مهمّتها مناقشة الوضع اليمني وتداعياته، وتقديم العون والإغاثة للجرحى وأُسر الشهداء.
كانت علاقة الراحل بالشهيد قاسم سليماني «مميّزة وخاصة جدّاً»، إلى حدّ اعتبار الأوّل «ثقة الحاج قاسم»، الذي كان يفوّضه تمثيله في مكتب السيّد علي خامنئي، والنيابة عنه في الكثير من الملفّات والمواضيع. ومن أجل هذه العلاقة الخاصة، فضلاً عن خبرته ومعرفته العميقة بشؤون اليمن، تمّ التوافق بين وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف، والشهيد سليماني، على أن يكون حسن إيرلو سفيراً للجمهورية الإسلامية الإيرانية في صنعاء، من خارج ملاك وزارة الخارجية الإيرانية. وفي أوّل فرصة أتيحت له، دخل إيرلو إلى اليمن، وقدّم أوراق اعتماده بشكل رسمي، مُراعياً كلّ الإجراءات البروتوكولية، قبل أن يُحوّل السفارة إلى ملتقًى لجميع الأطياف السياسية اليمنية. يؤكد المقرّبون منه أنه «لم يكن يتعامل مع اليمنيين كسفير، بل كأخ وصديق وأحد أبناء الثورة الحريص على الشعب اليمني كحرْص هذه النُخب على شعبها».
عن ساعاته الأخيرة في اليمن، تكشف مصادر مطّلعة أن السعودية رفضت الوساطة العُمانية، ومنعت نقل السفير الراحل إلى طهران، قبل أن يتدخّل العراق لديها، وينتزع موافقتها على عملية النقل، لكن بعد أن دخل إيرلو، عملياً، في مرحلة الموت المحتّم. وكان الإيرانيون طلبوا نقل سفيرهم المُصاب بـ«كورونا» بعدما ساءت حالته بشكل خطير، إلى بلاده، عبر الأجواء العُمانية توفيراً للمسافة والزمن (حوالى 50 دقيقة)، إلّا أن السعوديين أصرّوا على أن تمرّ الرحلة بأجوائهم إثر مماطلة وتسويف، أدّت في النهاية إلى وفاته قبل تلقّيه الإسعافات اللازمة. ملأت السعودية الفترة الفاصلة بين إعلان إصابة إيرلو وموافقتها على إجلائه لتلقّيه العلاج، بالكثير من الروايات المختلَقة؛ فتحدّث إعلامها تارة عن «تصفيات داخلية» أدّت إلى موته، وأخرى عن موته بقصف للتحالف السعودي - الإماراتي على مأرب. وأخيراً، تفنّنت الرياض وإعلامها في التشفّي والشماتة بالرجل، إثر إعلان وفاته.