شفّافة هي غادة شبير (1972) وواضحة وضوح صوتها، ومثابرة في المضيّ قدماً لحفر إضاءتها في عالم الأبحاث وحفظ الموروث الغنائي وفي التلحين والغناء. تجمع الفنانة والأكاديميّة اللبنانيّة قدرات صوتيّة في الغناء التقليدي الشرقي، بالإضافة إلى خبرتها التعليميّة للغناء السرياني والموشّحات وتاريخ الموسيقى العربيّة في تجربة أكاديمية حوت معرفة بحثية وسمعيّة. تحلّ الفنانة اللبنانية عند الثامنة من مساء اليوم، على أمسية ميلادية ضمن مهرجان «بيروت ترنّم». في كنيسة «مار الياس» (القنطاري)، ستقدّم الريسيتال الميلادي بعنوان «الله معنا» برفقة فرقة موسيقية تضمّ كلّاً من إيلي حردان (بيانو) وعفيف مرهج (عود) وناجي عازار (كمان) وماريا مخّول (قانون) ومارون أبو سمرا (دفّ وإيقاعات). أمسية اللّيلة، كانت فرصة لهذا الحوار مع الفنانة التي تشغل حالياً منصب مديرة قسم الموسيقى العربية في «جامعة الروح القدس ـ الكسليك». نتساءل بداية إن كان هذا الموقع الأكاديمي قد جعلها تبتعد عن الساحة الفنية كمغنية ومرنّمة، إلا أنها تكشف عن انتهائها من العمل على مشاريع عدّة، بالإضافة إلى انخراطها في أخرى قيد التحضير. حالياً، تحضّر ألبوماً مع فرقة في كورسيكا، كما أن لديها مجموعة من الحفلات خارج وداخل لبنان، منها أمسية في مهرجان «فيلوكاليا الميلادي» في عينطورة في الحادي والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) الحالي، قبل أن تسافر بعدها لتحيي حفلات في باريس والبحرين.
تشرح شبير علاقة التجربة العلميّة بالموهبة، فالعلم والتعليم أساسيّان من أجل صقلها «إذا كنت أعمل في مجال التعليم أو كنت أدير فرقة عربية أو مسؤولة في جامعة، فهذا لا يؤخّرني عن تقديم أعمال فنيّة، بل على العكس تماماً. التعليم يجعل الإنسان أكثر نشاطاً وأكثر إنتاجاً لا سيّما على صعيد العمل الأكاديمي». في رصيد الفنانة اللبنانية أبحاث أكاديمية عدّة، أبرزها منهجاً لكتاب موشّحات صدر منذ ثلاث سنوات، وهو اليوم يعدّ منهجاً معتمداً لطلاب الغناء العربي، يُضاف إليه أربعة كتب حول نظريّات موسيقى عربيّة تشكّل منهجاً للطلاب أيضاً، وسلسلة جاهزة للطباعة هي عبارة عن تدوينات لمقطوعات صعبة. في هذا السياق، تشير شبير إلى أن هذا النوع من الإنتاج بات مكلفاً جداً، إذ «أضطر للحصول على دعم، كي أتمّكن من المتابعة في الإنتاج، خصوصاً أنني أرفض زيادة الأسعار على الطلاب لأن أهاليهم ما زالوا يتقاضون الرواتب نفسها التي كانوا يتقاضونها قبل الأزمة».
تولي شبير اهتماماً كبيراً بحفظ موروث الغناء وأرشفته، لكنها مهمّة لا يمكن أن تقوم على عاتق إنسان بمفرده، بل تحتاج إلى مؤسسة كبيرة أو دولة، فكلّ شخص يمكن أن يضيء شمعة في هذا المجال بحسب تعبيرها، «إذا أردت أرشفة نمط واحد من الغناء سأحتاج عمراً كاملاً، الأرشفة ليست مهمّة يسيرة. قيمة أي جامعة لا تتمثّل بجدرانها وأبوابها بل بقيمة الأبحاث الموجودة فيها ولا سيّما تلك التي تحويها مكتبتها». هذه فرصة لكي تشير إلى أهمية قسم الموسيقى، ومكتبته الغنية في «جامعة الروح القدس ـ الكسليك»، حيث تعمل وتدرّس منذ سنوات.
تولي اهتماماً كبيراً بحفظ موروث الغناء وأرشفته، لكنها مهمّة لا يمكن أن تقوم على عاتق إنسان بمفرده، بل تحتاج إلى مؤسسة كبيرة أو دولة

فالأبحاث الموسيقية فيها تغطي الفترة الممتدّة من العصر الجاهلي وصولاً إلى اليوم. يعود هذا الغنى إلى «الجهود الأكاديمية التي تتظافر منذ خمسين سنة، من أجل أرشفة الموروث الغنائي اللبناني». مع هذا، «ما زلنا نحتاج إلى سنوات طويلة لكي ننهي عملنا. تصلنا كل فترة مُدمجات، أي شرائط قديمة عمرها خمسون عاماً وما فوق. لدينا مجموعة من الأشخاص يعملون لحفظها من التلف. لكن لا يمكن تخيّل تكلفة هذا العمل، فهذه الشرائط تحتاج إلى أمكنة أيضاً، بالإضافة إلى الوقت الطويل من أجل إتمامه». حفظ هذا الموروث والتسجيلات، وإتاحته سمعياً، يحمل أهمّية كبيرة بالنسبة إلى شبير، خصوصاً بالنسبة إلى «الطلاب الذين سيجرون أبحاثاً في المستقبل، إذ يجب أن يجدوا مواضيع ومواد ليعملوا عليها».
ليست شبير بمنأى عن الظروف الصعبة، رغم أنها تواصل عملها. حالها كحال كلّ مواطن وفنان يعيش تحت وطأة الانهيار الاقتصادي في البلاد. تعرف جيّداً أن العمل يتطلّب جهداً مضاعفاً في ظروف كهذه، خصوصاً حين يتمّ إلهاء الفنانين في أمور بديهية، مثل تأمين المستلزمات اليومية للبقاء أحياء. ترى أن استمرار الناس في هذه الظروف يجعل الشعب اللبناني «شعباً جباراً»، وفق تعبيرها خصوصاً أننا استطعنا «تخطّي وباء كورونا، والأزمات المادية والسياسية، بالإضافة إلى الخوف الذي نعيشه يومياً، مستكملين حياتنا هنا»، وتضيف «وتسألين كيف أكمل تحقيق طموحي هنا! يمكننا غالباً أن نخلق قوة من الضعف رغم أننا تعبنا نفسياً. طموحي اليوم بات يتمثّل في أن نتخلّص من ظلم السياسة التي تحكمنا ونتحرّر ونطير. كلّما حاولنا التقدّم باتجاه طموحاتنا، نتعثّر بما يشدّنا إلى الوراء. كلّما التقيت بمجموعة من الفنّانين أجدهم متعبين نفسياً، حتى لو كان السفر متاحاً لهم من أجل إحياء الحفلات. هناك مشكلة بتحويل المال من وإلى لبنان. لقد قدّمت عملاً في أوروبا منذ شهرين، ولم أستطع الحصول على مستحقّاتي حتى اليوم بسبب الحظر على تحويل الأموال باليورو من فرنسا إلى لبنان، وهذا ينسحب على بلدان عدّة». لم تؤثّر هذه الظروف في رغبة شبير بإحياء الأمسيات في لبنان، فـ «لا شيء يدعوني إلى الاحتفال حالياً إلا راحة وطني وراحة الناس، الحالة الأمنية والسياسية المسيطرة أودت بنا إلى اليأس يصاحبه جهلنا بمصيرنا».
هنا يؤدّي الغناء والموسيقى دوراً أساسيّاً كمحاولة مستمرّة من أجل العودة إلى الحياة، وهذا ما يأتي كمحاكاة للكثير من الشباب اللبناني ممّن «يحاولون العودة إلى الحياة أمام كلّ السلبيات المحيطة، خصوصاً أن نسبة الانتحار واليأس والهجرة تضاعفت في الفترة الأخيرة. نحن في أتون سلبيات كثيرة، لهذا أحاول على الدوام تقديم صورة أخرى عن بلدي لو كانت مخالفة لكّل ما يتمّ تسويقه حاليّاً. ما نعيشه يحتاج معجزة لكيّ يتقبّله الناس. لا أستطيع أن أفهم «كيف يستطيع الشعب تحمّل ما يحصل؟».
الاحتفالات الحاليّة على روزنامة الفنانة، تدعونا إلى التوقّف عند حال المسرح والمهرجانات في لبنان اليوم. هنا تجد شبير فرصة للاعتراف بأنّها قد كانت قاسية حين أبدت رأيها حول «مهرجانات بعلبك» بنسخته الأخيرة، «بما أنّ العظماء أمثال فيروز ووديع الصافي وصباح ونصري شمس الدين شاركوا في المهرجانات اللبنانية، فبالتالي، من البديهي أن مَن يقف على أدراج بعلبك عليه أن يكون على المستوى نفسه. من هنا جاء نقدي للمهرجان بنسخته الأخيرة، أنا ضدّ فكرة أن نضع أناساً على المسرح فقط لأننا نريد تشجيعهم. لا أنكر أهميّة تشجيع المواهب، لكن ليست بعلبك المكان الأمثل للقيام بهذا، خصوصاً أن المستوى لم يكن لائقاً على الإطلاق مع تخلّل الحفل كميّة وافرة من النشاز. الظروف الصعبة والجائحة ليست مبرّراً لسقطات كهذه». وبالنسبة إلى المسرح في لبنان والعالم، فإن شبير لا تفكّر في المكان الذي تتواجد فيه كثيراً، وذلك «لكي أوجد فعلياً وأبدع بشكل محترف». غير أن هذا لا يعني أنها لا تولي اهتماماً للعامل التقني والاحترافي في بعض المسارح الأوروبية «مسارح أوروبا بالنسبة لي هي الاحترافية في التعامل مع الصوت وهندسته. للأسف لا يوجد لدينا احترافية في تصميم المسارح، لذلك أذهب إلى الكنائس في لبنان، وأستمرّ في البحث عنها دائماً، لأن هندستها تقوم على حسابات علميّة خصوصاً بالنسبة إلى الصوت»، وتضيف حول قرارها في المشاركة في بعض التظاهرات الفنية أو عدمها «هناك فن صادق وآخر مبتذل منذ أيام العصر الجاهلي حتى اليوم، إذا قرأنا كتاب «الأغاني» للأصفهاني، سنعثر على المبتذلين في الفن، وعلى آخرين حقيقيّين ومهمّين».

استمرار الناس في ظروف كهذه يجعل الشعب اللبناني «شعباً جباراً» وفق تعبيرها


ورغم أن الجائحة كانت شاقّة على كافّة الأصعدة، إلا أن شبير شعرت بالحاجة إليها من نواح عدّة. فخلال فترة الحجر، أتمّت تلحين 4 قصائد عربية منها بعض الأعمال التي ستلتحق بألبومها الجديد، بالإضافة إلى لحن لفنان جديد. غير أن الحجر ألغى مواعيد مهمّة، منها مؤتمراً في الكويت، بالإضافة إلى حفلة في باريس بسبب القيود المفروضة على السفر. وبعيداً عن الجانب المهني، ثمّة ما قدّمته الجائحة إليها، وهي أنها تأكّدت مجدّداً من أنّ الإنسان هو الأهم في الحياة مهما كانت الظروف «جعلني الوباء أعي قيمة أصدقائي وأحبائي. قيمة كل النّاس الذين ألتقي بهم يومياً ولا نتحدّث، منهم عامل النظافة الذي أراه كلّ يوم أمام بيتي ويبتسم لي ويتراجع كي تمرّ سيارتي، بتّ أعرف كم أنا بحاجة لرؤية كل الأشخاص الذين لا تربطني بهم علاقة مباشرة»، رغم أن الوباء «شلّني فكرياً في البداية، لم أكن أعرف مَن أنا في بعض اللحظات، طرحت على نفسي أسئلة مثل «لماذا أنا هنا؟ وماذا أفعل؟ وماذا سيحصل بعد الكورونا؟ هل سأعرف طريق العودة إلى حياتي الصاخبة القديمة؟ هل سيُشفى وطني من كل النواحي؟ هل سأنسى الرابع من آب؟ بالمناسبة أشعر أنّني شخص آخر بعد انفجار الرابع من آب، الكثير من الأمور باتت بلا قيمة بالنسبة إليّ، صرت أبحث أكثر عن السلام والاستقرار، عن القيام بما يريحني فكرياً ونفسياً. ومع هذا يبقى الأمل بأن ننهض من محنتنا ونستعيد نشاطنا وحياتنا». ربّما هذا الأمل هو ما يدفع شبير إلى رفض الهجرة، مقابل دعواتها للبقاء في لبنان، «أحبّ لبنان ولا أريد أن أهاجر ولا أريد خسارة الشعور بالانتماء إلى الأرض. لا أريد أن أعيش بعيداً عن بلدي، أريد أن أعمل في الخارج وأعود إلى لبنان، أقدّم حفلاً وأعود. أريد أن أشعر أنّ لبنان مركز استقراري، لم أفعل ما فعلته هنا لكي أرمي كلّ شي وأغادر، لا أريد أن أموت خارج أرضي، أريد أن أبقى هنا. ما زلت أناضل لكي أبقى». تعزو شبير ما يمكن أن يُسمّى إيجابية إلى كونها نابعة من إيمانها بأننا يجب «أن نكون مفتاح أمل لبعضنا البعض»، خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي.
لطالما أعلنت غادة شبير إنّها تحلم بزيارة كنيسة القيامة، رغم أنها ترى أن ما يحصل «ليس أمراً عادياً. لا نستطيع زيارة فلسطين. يؤلمني هذا الموضوع. لحّنت قصيدة لفلسطين، لكنني لم أصدرها لأنّني فكّرت كيف أحكي عن الظلم والقتل فيها، في الوقت الذي أعيش فيه ظلماً أكبر في بلدي. لهذا أجّلت عمل فلسطين ريثما أنهي عمل لبنان»، هكذا تختم قائلة «كل شخص ممنوع من الحرية لا يبارح تفكيري».

أمسية «الله معنا» لغادة شبير: ضمن مهرجان «بيروت ترنّم»: 20:00 مساء اليوم - كنيسة «مار الياس» (القنطاري). للاستعلام:
https://beirutchants.com/