من خارج سياق السجالات المحلية، اتّهم مقرّر الأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان أوليفييه دي شوتر، قادة لبنان السياسيين «في أعلى المستويات» بتدمير المجتمع وتبديد موارد الدولة على المصارف.بالنسبة إلينا، فإن دي شوتر يؤكد المؤكّد. هو، الآتي من بعيد، يصف مشاهد عمالة الأطفال والهجرة والفقر من دون انحياز لطرف سياسي محلّي على آخر، بل اتهمهم جميعاً بالانحياز والشراكة مع الفئات الأقوى في المجتمع ضدّ الفئات الأكثر حاجة وهشاشة. ما قاله دي شوتر، هو أن السلطة اللبنانية تمعن في تدمير المجتمع الذي كان يتوجب عليها أن ترعاه، وهي تصرّ على إطالة أمد النظام الاقتصادي الريعي القاتل للفقراء، بدلاً من استغلال فرصة «إعادة التفكير في نموذج لبنان الاقتصادي...».
لم يكن صعباً على دي شوتر معاينة الصورة الشاملة عن قرب، خلال زيارته للبنان، ليخرج بما تردّده الغالبية وبما يجب أن يُنفّذ لتحقيق التعافي المالي، وبالتحديد ما ذكر في خطّة حكومة حسان دياب قبل أن يسقطها مصرف لبنان وشركاؤه من أصحاب المصارف وحاملي الأسهم وممثلي القطاع المصرفي في مجلسَي الوزراء والنواب.
دي شوتر ليس رجلاً سياسياً، أو زعيماً حزبياً، وليس معنيّاً بكل السجال السياسي بين هذه الجهة وتلك، لكن كان سهلاً عليه، إدراك المخطّط الاحتيالي السياسي وتوصيف نتائجه الجارية حتى الآن، لينتقل إلى تعداد وسائل الخروج من هذه الكارثة التي يعلم بها الجميع ولكن لا يريد أحد تنفيذها. بل ثمة من استفاد سابقاً من مراكمة الديون، ويستفيد اليوم من إطفائها على حساب المودعين. في هذا الصدد، سأل دي شوتر: «علامَ أنفق السياسيون الموارد على مدى عقود؟ لقد تجاهلوا الحاجة إلى سياسات اجتماعية من برامج رعاية اجتماعية وبنى أساسية للخدمة العامة، وركزوا بدلاً من ذلك على القطاعات غير المنتجة مثل المصارف، ما أدّى إلى تضاعف الدين العام وتكريس كل الموارد لخدمة هذا الدين».
بالنسبة إلى دي شوتر، «لا تزال العلاقة المعقّدة بين الطبقة السياسية والقطاع المصرفي مقلقة للغاية». هذا ما يدفعه إلى مطالبة الحكومة بالكشف علانية «عن جميع الإيرادات والحصص والمصالح المالية، وتخصيص الموارد لآليات المساءلة الحقيقية. فالمجتمع الدولي لن يصدّق التزام الحكومة بالإصلاح إلا إذا التزمت بشكل جدي بمبدأ الشفافية». فوفق الخبير العامل في الأمم المتحدة، هذه الأزمة «تدمّر حياة السكان وتحكم على الكثيرين بفقر ستتوارثه الأجيال». يحصل ذلك في حين «يحاول السكان البقاء على قيد الحياة، بينما تضيّع الحكومة وقتاً ثميناً بالتهرب من المساءلة».
السلطة تمعن في تدمير المجتمع وتصرّ على إطالة أمد الاقتصاد الريعي القاتل للفقراء


من هنا، خلص دي شوتر إلى إبلاغ المعنيين أن «صبر مجتمع المانحين بدأ ينفد مع الحكومة اللبنانية. فبعد خسارة 240 مليون دولار نتيجة التلاعب بأسعار الصرف التعسفية، يجب أن يلمس المجتمع الدولي جدية الحكومة في تطبيق الشفافية والمساءلة. ومن شأن اعتماد نهج قائم على الحقوق أن يوجّه جهودها على هذا المسار».
دي شوتر الذي لا يفقه عن لبنان شيئاً وزاره لمدة 12 يوماً، تمكّن تلقائياً من فهم أدوات رأس المال المستخدمة في إفقار الطبقات العاملة وتدمير العملة الوطنية، داعياً إلى محاسبتهم وفرض إصلاحات تعالج الانهيار الاقتصادي. ورأى أن «عدم المساواة بلغ مستويات غير مقبولة منذ أعوام. وحتى قبيل الأزمة، كانت شريحة الـ 10% المصنفة في خانة الأكثر ثراء تحصل على دخل يزيد خمس مرات على 50% من الشريحة الأكثر فقراً. وهذا المستوى الصارخ من عدم المساواة يعزّزه نظام ضريبي يكافئ القطاع المصرفي، ويشجّع التهرب الضريبي، ويركّز الثروة في أيدي قلّة. في الوقت نفسه، يتكبّد السكان ضرائب تنازلية تصيب الفقراء. إنها كارثة من صنع الإنسان، استغرق صنعها وقتاً طويلاً». من جهة أخرى، اتهم دي شوتر الطبقة السياسية بعدم الرغبة في تخفيف حدّة الفقر وتعزيز الحماية الاجتماعية من خلال إصلاح النظام الضريبي لإعادة بناء الاقتصاد. وأكد أن ما من خطة حكومية لمعالجة الوضع إلا «تعتمد على المانحين الدوليين والمنظمات غير الحكومية»، فيما يرى أن «الاعتماد على المعونة الدولية ليس مستداماً، ويضعف مؤسسات الدولة».
أنهى دي شوتر جولته مذهولاً من التقصير وعدم المسؤولية لدى القيادات السياسية. إلا أنه قدّم طروحات للخروج من الأزمة؛ منها ضرورة إعطاء الحكومة الأولوية لوضع «حدّ أدنى من الحماية الاجتماعية الشاملة، بما في ذلك التأمين ضد البطالة ومستحقات الأطفال وضمان الشيخوخة وغيرها». فلبنان «لديه فرصة لإعادة النظر في نموذجه الاقتصادي. ولن يؤدي الاستمرار في تحفيز نموذج فاشل قائم على الريعية وعدم المساواة والطائفية إلا إلى إغراق السكان أكثر في العوز. وإلى أن يتم اقتراح خطة موثوقة لتغيير النظام الاقتصادي ومعالجة عدم المساواة وضمان العدالة الضريبية والحؤول دون تفاقم المشكلات السياسية، لن يأخذ المجتمع الدولي الإصلاحات على محمل الجد».