الخرطوم | يمضي العسكر السوداني في هندسة مرحلة ما بعد الانقلاب، عبر قرارات إدارية يومية صادرة عن قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، هدفها، كما هو ظاهر، إزاحة الرافضين لخطواته من الفضاء العام والخدمة المدنية واستبدال موالين له بهم، من مناصري نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، والمنتسبين إلى الحركات المسلّحة التي دعمت خطّته. وفي أبرز القرارات الصادرة عن البرهان حتى اللحظة، حلّ النقابات والاتّحادات المهنية كافة، وإعفاء جميع كبار الموظفين من دون استثناء، بمن فيهم مسجّل الجمعيات التعاونية ومدير هيئة النظافة، وهو ما عدّه مراقبون محاولة من البرهان لإرساء أرضية صلبة لمصلحته داخل مؤسسات الدولة وقطاعاتها الحيوية، عبر إقصاء مَن يعتبرهم أنصاراً لـ«التحوّل الديمقراطي». بالتوازي مع ذلك، لا يفتأ الرجل يبعث برسائل تطمينية إلى الخارج، يتعهّد فيها بإكمال العملية الانتقالية وتشكيل حكومة مدنية غير سياسية تتولّى تسيير شؤون البلاد، وصولاً إلى تنظيم انتخابات حرّة عام 2023، فيما لا يزال رئيس الوزراء المعزول، عبد الله حمدوك، رهن الإقامة الجبرية، إلى جانب وزراء آخرين ورؤساء أحزاب سياسية وصحافيين وناشطين معتقلين في أماكن مجهولة.في المقابل، يستمرّ الاحتجاج الشعبي والسياسي على الانقلاب بأشكال عدّة، تَمثّل أَحدثها في مبادرة «تجمّع المهنيين السودانيين» التي دعت إلى تشكيل سلطة انتقالية مدنية، فضلاً عن تنظيم القوى المعارِضة احتجاجات يومية يتخلّلها إغلاق للطرق الرئيسة في العاصمة الخرطوم والمدن الكبرى، وتنفيذها عصياناً مدنياً يومَي الـ7 والـ8 من تشرين الثاني الجاري، ودعوتها إلى تظاهرة «مليونية» يوم السبت المقبل، تحت شعار «لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية»، للمطالبة بعودة الجيش إلى ثكناته، وتشكيل سلطة مدنية، ومحاكمة المتورّطين في الانقلاب. أمّا خارجياً، فلا يزال الضغط مقتصراً على حثّ البرهان على التراجع عن خطواته. وفي هذا الإطار، أبلغ سفراء كلّ من الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج، قائد الجيش، يوم الثلاثاء، بضرورة العمل وفق الوثيقة الدستورية، وإعادة رئيس الوزراء إلى منصبه، كأساس للنقاشات بشأن كيفية تحقيق شراكة مدنية - عسكرية وحكومة انتقالية يقودها مدنيون.

خيارات قادة الانقلاب
إزاء ذلك، تعتقد الباحثة والمحلّلة السياسية، درّة قمبو، أن «خيارات قائد الانقلاب باتت محدودة للغاية، وكلّها سيئة للبلاد ولمستقبله الشخصي على المستويَين العسكري والسياسي»، لكن قمبو ترى، في حديث إلى «الأخبار»، أن «البرهان سيمضي في هروبه إلى الأمام، وفي هذه الحالة سيضطرّ لتسمية رئيس وزراء». وحول الشخصية التي يمكن أن يختارها لرئاسة الحكومة، توضح أنه «في ظلّ الصعوبات التي تواجه الانقلابيين حالياً، سيقع الاختيار على شخص له ارتباطات بالنظام السابق، وذلك بسبب الرفض المتواصل لكلّ مَن جرى ترشيحهم»، مضيفة أن هذه الخطوة، إن حصلت، «ستُدخل البرهان في مواجهة مع أطراف خارجية داعمة له». كذلك، تُرجّح قمبو أن تكون لدى البرهان خطّة أخرى تتمثّل في مواصلة «ضغطه على قيادات في أحزاب سياسية شريكة في حكومة حمدوك المطاح بها، وإن كانت مواقفها ليست واضحة حتى اللحظة، فيعمد إلى تسمية عضو منها من ذوي الخلفيات العسكرية رئيساً للوزراء تحت عنوان تكنوقراطي»، متابعة أن «هذا السيناريو، إذا حدث، سيقود حتماً إلى انشقاق كبير في الكتلة الداعمة للانقلاب». في المقابل، تَعتبر الباحثة السودانية أن استمرار التحركات في الشارع «ربّما يحفّز بعض ضباط الجيش الذين لا يدعمون اتجاه قائدهم، على الانتصار لصوت المواطنين، عبر إزاحة البرهان ومجموعته عن المشهد لمصلحة استقرار البلاد وتجنيبها الانزلاق نحو حرب أهلية»، لافتة إلى أن «مثل هذا الخيار مطروح بقوّة، خاصة أن بعض التنظيمات السياسية المسلّحة من الموقّعين على اتفاق جوبا للسلام، أعلنت رفضها للانقلاب، إضافة إلى تعالي الأصوات المتذمّرة داخل الحركات المسلّحة المناصرة للبرهان بشكل متزايد، في وقت تتزايد فيه الأصوات المعترضة على الانقلاب داخلياً، بالتزامن مع ضغوط الأمم المتحدة ودول الترويكا والولايات المتحدة».
يضغط البرهان على بعض الأحزاب السياسية لدفعها إلى تزكية مرشّح منها لرئاسة الحكومة


من جهته، يرى الباحث والمحلل السياسي، بكري الجاك، أن «الانقلاب يفتقر إلى ثلاثة عوامل ضرورية لإنجاح وتوطيد أيّ نظام حُكم في مرحلة التأسيس واكتساب الشرعيّة»، مفنّداً تلك العوامل في حديث إلى «الأخبار»، بالقول إن العامل الأوّل يتمثّل في «الصيغة القانونية التي يستند إليها البرهان في القرارات التي يصدرها»، وهي معدومة عملياً «سوى شرعية القوّة ووضع اليد». ولذا، يعتبر الجاك أنه «إلى حين إصداره المرسوم الدستوري الأول الذي يعطّل بموجبه العمل بالوثيقة الدستورية بشكل كامل، ويعقبه بمراسيم تؤسّس لنظامه، سيظلّ قائد الجيش في دوّامة انتفاء الشرعية»، مستدركاً بأن «هذه المراسيم نفسها لن تعطي قائد الانقلاب شرعية سياسية، لكنها ستزيل اللبس في تعريف مَن هو البرهان؟». ويتابع الجاك أن العامل الثاني هو «الشرعية الاجتماعية التي تقوم على عمق اجتماعي يعطي النظام قدراً من القبول أو اعتقاداً لدى قطاع عريض من المواطنين بأحقيّته في الحكم»، مشيراً في هذا السياق إلى أن «الانقلاب خسر حتى بعض القوى التي كان يعوّل عليها في تشكيل قاعدته الاجتماعية، فالبيان الأخير الصادر في 7 تشرين الثاني، عن موقّعين رئيسين على اتفاق سلام جوبا، وإقراره صراحة ما بأن حدث هو انقلاب، له أهميته البالغة في كشف حقيقة ضعف القاعدة الاجتماعية للتحالف الانقلابي». أمّا العامل الثالث، وفقاً للجاك، فهو «عدم امتلاك التحالف الانقلابي مشروعاً أو رؤية سياسية تجد القبول من قواعد عريضة من الجماهير، ما يؤشر إلى فقر الخيال وقلّة الحيلة والبصيرة في تصوّر المستقبل لدى الانقلابيين».

ثلاثة سيناريوات متوقّعة
على رغم افتقار الانقلاب السوداني إلى العوامل المذكورة أعلاه، وبروز مؤشّرات إلى وجود خلافات في صفوف القائمين عليه، يرجّح الجاك، في سيناريو أوّل يطرحه لمآل الأمور، أن «يواصل الانقلاب بناء أركان حكمه مثلما يفعل الآن، وفي هذه الحالة، ليس أمامه إلّا استخدام العنف المنظّم وواسع النطاق لتأسيس شرعية قائمة على القمع والترهيب». إلّا أنه في ظلّ إمكانية «تحوّل المقاومة والفعل الثوري إلى أسلوب حياة، فإن هذا السيناريو سيفشل، لكنه يمكن أن يفضي إلى سيناريو آخر، وهو العنف الشامل من خلال استخدام واسع لأدوات القهر من أجل إخضاع المواطنين الرافضين للانقلاب (الاعتقال والقتل)، وهذا ربّما يؤدي إلى لجوء الثوار إلى التفكير في حمل السلاح، وهو ما يعني الدخول في دوامة من العنف والعنف المضادّ، ليس بوسع أيّ أحد معرفة أمدها وكلفتها البشرية والمادية»، بحسب الجاك.
أمّا السيناريو الثالث الذي يطرحه المحلّل السوداني، فهو يستند إلى فرضية مفادها أن الانقلاب وما نتج عنه من إجراءات وتدابير، مثل حلّ لجنتَي تفكيك التمكين والتحقيق في مذبحة فضّ الاعتصام وإعادة الإسلاميين إلى مواقعهم في جهاز الدولة، «هو محض رفع للسقف التفاوضي للمجموعة الانقلابية». وفي هذه الحالة، «ربّما تسعى المجموعة الانقلابية إلى ترتيب عملية سياسية جديدة، قائمة على نوع من الشراكة مع المدنيين، وفق نموذج مسيطَر عليه ومتحكَّم به بواسطة مراكز قوّة متمثّلة في قيادات القوات المسلحة وقوات الدعم السريع وتحالف المصالح المحلي والإقليمي». ويخلص الجاك إلى أنه إذا ما نجح السيناريو الأخير، قد «تُنظَّم انتخابات العام القادم، وتأتي حكومة مدنية تدير شؤون البلاد، ولكنها لا تهدّد مصالح هؤلاء، وهو ما قد يجد مباركة من بعض دول الإقليم، وإن كان مدى نجاحه وديمومته وطبيعة السلطة التي يمكن أن تَنتج عنه، كل ذلك يعتمد بشكل كبير على تنظيم القوى الثورية وتماسكها ووحدتها وقدرتها على ابتداع وسائل مقاومة طويلة ومستدامة، وقدرتها على التفاوض إذا ما قرّرت أن تفاوِض».