كانت نسائم عمان الصيفية هي التي تخفف عليّ وطأة الازدحام الخانق في الشارع الطويل الممتد، جنوبي ضاحية عبدون، نحو مقر السفارة السورية في عمان؛ مع النسائم كانت أصوات أهزوجة أردنية تأتي من بعيد، بايقاعها المنغّم على دقّة المهباش؛ لم أتبيّن الكلمات، لكن، كلما اقتربت السيارة من منطقة التجمهر التي تحيط بالسفارة، كانت الكلمات تتضح:«الشام لِيْنا وحقكْ علينا»
ما معناه: يا شام.. أنتِ لنا ومنّا، ونحن مكلّفون باسترداد حقك المهدور!

ثم اتضحت الجمهرة الأولى، جمهرة أردنيين يعقدون حلقات الدبكة أمام المدخل الذي خصصته السفارة للمواطنين الأردنيين والعرب المقيمين في البلاد، الراغبين بالإدلاء بأصواتهم في «صندوق شرفي» غير رسمي لا تُحتَسَب أصواته بالطبع، في الانتخابات الرئاسية السورية، إنما تصب في التيار المشرقي المتسع الصفوف في الأردن؛ قيادات الحركة الوطنية ولفيف من شبابها يصطفّون للإدلاء بأصواتهم في انتخابات مركز بلاد الشام والمشرق.
على الصندوق، كانت هناك إجراءات مضبوطة بالكامل، اقترعتُ بهويتي الأردنية لرئيس سوريا المقبل، وبمعنى ما لرئيس الشام؛ كان قلبي يشدني لأبقى مع رفاقي في اللحظة البهيجة لإعلان الهوية المشرقية للحركة الوطنية الأردنية، لكنني عقلي كان يشدني إلى صناديق الاقتراع السورية، الحقيقية، حيث أبناء الجمهورية العربية السورية، يتجمهرون ثم ينسابون في صف طويل منتظم، حاذيته ودخلت إلى قاعة اللجنة الانتخابية؛ مَن أدلى بصوته لا يريد أن يغادر؛ كأن تجمع السوريين هذا الضاج بالأغاني الوطنية، هو مساحة وطن مفقودة تم اكتشافها فجأة، ولكن لا مكان يتسع للجميع، لا مكان يتسع لكل هذه العواطف والانفعالات؛ صبية ترتدي العلم السوري فستانا، وأخرى يتقافز الأمل من عينيها، ويتهادى مع شعرها وتلويحاتها، إلى جانبها محجبة ومنقبة؛ ملابس النساء هي فقط التي تميّز الانتماءات الفرعية في هذا الجمع السوري الذي يضمّ كل الألوان والإيحاءات، ولكنه واحد؛ هكذا وجدتني في قلب احتفال جماعي وصلاة متعددة الموجات، لكنها تتوحد على إيقاع الأمل بالعودة إلى ما قبل ربيع 2011 الأسود؛ كم رجلا وكم إمرأة من هؤلاء الذين يتزاحمون على صناديق الاقتراع اليوم في داخل السفارة السورية، كانوا وكنّ، في العام 2011 ، 2012، في المقلب الآخر من السفارة، في الاعتصامات التي كان ينظمها الإسلاميون والشبكات القَطرية ضد الرئيس بشار الأسد؟

لم يعد ممكنا حشد السوريين
في الأردن ضد النظام
اليوم انقلب المشهد: السوريون، بأطيافهم، يتجمهرون حول سفارتهم وفي داخلها، بينما المعتصمون ضد الانتخابات لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين؛ لم يعد ممكنا حشد السوريين المقيمين في الأردن ضد النظام السوري؛ يستطيع المرء أن يتلمس انتصار سوريا الوطن والدولة والمستقبل، هنا في ضاحية عبدون في عمان، حيث، كما هو معروف، يمكن للقوى المضادة أن تتحرك بسهولة، بالإضافة إلى أنها تملك القدرات اللوجستية والمالية للتحشيد؛ حتى قوات الدرك الأردنية، المجهزة للفصل بين الموالين والمعارضين، فوجئت بهزيمة الأخيرين؛ عادت الكتلة السورية موحدةً، لديها الآن هدف مشترك: عودة الأمن وإعادة البناء والتطلع نحو المستقبل؛ شيء غامض في هذا الجمع الشعبي يتجاوز الولاء والمعارضة، ويحاكي سوريا جديدة.
إصرار السوريين في عمان على تحويل يوم الانتخابات الرئاسية إلى تظاهرة سياسية حضارية، رغم ما أشاعه ابعاد السفير بهجت سليمان من مخاوف وحسابات، يشتمل على روح جديدة، يمكن للمرء أن يتوقعها تسري في الكتلة الرئيسية من السوريين في أراضي الجمهورية، ويمكنه أن يتوقع، بالتالي، أن الانتخابات الرئاسية السورية ستكون، في 3 حزيران المقبل، ساخنة، ليس من حيث التنافسية، وإنما بما تعكسه من إرادة جماعية للتجاوز والحياة والتغيير.
سوف ينتخب السوريون بشار حافظ الأسد؛ الموالون سينتخبون رئيسهم، والمؤيدون سينتخبون خطه السياسي، والمعارضون أو المعترضون سينتخبون الأسد الذي سوف يستجيب للبرامج السياسية والتنموية والعدالة الاجتماعية؛ يجددون ثقتهم به؛ لديهم، هذه المرة، الثقة بأن رئيس سوريا سيكون قوة تلئم الجراح، وتستجيب للتطلعات، وتحفز عجلة التقدم. ولكن كل هذه الفئات تقترع، في النهاية، للجيش العربي السوري؛ بدمائه صان وحدة سوريا، وبتضحياته سينهي الغزو الإرهابي لأرضها، ويوحد مجتمعها، ويجدد دولتها الوطنية، ويشكل الضمانة الموثوقة للمستقبل، لسوريا وطنا وملاذا وطريقا وسكنا وعيشا وعملا وكرامة ومشاركة في القرار... لكل السوريين.
ما ينتظره السوريون من الولاية الجديدة المنتظرة للرئيس بشار الأسد، رئيسا جديدا، يواصل كل ما هو وطني ومقاوم في تقاليد السياسة السورية، ولكنه يجترح رؤية تقطع مع أخطاء الماضي، رؤية تتجرأ على بناء سوريا جديدة، سوريا الحريات وحقوق الانسان والمواطن، وسوريا التنمية الوطنية والديموقراطية الاجتماعية.
انتخابات الرئاسة السورية في عمان، تبعث إلى الحكومة السورية رسالة عاجلة عنوانها: لا تتركوا السوريين في الخارج وحدهم، تواصلوا معهم، استعيدوهم؛ فقلوبهم ــــ حتى المعارضين منهم ــــ تنبض بالأمل، بالمصالحة والوحدة.
خرجتُ من السفارة وأنا متفائل بإرادة الشعب السوري على النصر والحياة، ولكنني مشفق على الرئيس؛ فكم ينتظره من عمل... ومعارك!