التقط عبد الفتاح البرهان ما يرى أنها «كلمة السرّ» في المواقف الغربية من الحدث السوداني؛ إذ لم تكد تمرّ أيامٌ على انقلابه ضدّ الحكومة المدنية، حتى أطلق وعده بالإتيان برئيس وزراء ووزراء من السنخ نفسه «بعيداً من تدخّلنا». وعدٌ يراهن البرهان على أنه سيجد صداه لدى الغرب، الذي سينسى سريعاً ديباجاته حول «شعب السودان وكفاحه السلمي»، ويعود إلى التعامل مع الأمر الواقع، وفق ما أقنعه به، على ما يبدو، ملهمه في التجربة، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وفي الانتظار، سيواصل البرهان العمل على تعزيز أركان انقلابه، حتى لو تطلّب الأمر موجة عنف دموية جديدة يُخشى أن يكون اليوم موعد انطلاقها، مع دعوة القوى المدنية إلى تظاهرة «مليونية» في الخرطوم
يدخل المشهد السوداني، اليوم، فصلاً جديداً، مع دعوة القوى المدنية المناهضة للحُكم العسكري إلى تظاهرة «مليونية» في العاصمة الخرطوم، تأمل من خلالها في الدفْع قدُماً بتحرّكاتها المناهضة للانقلاب، والتي تُواجَه من قِبَل العسكر بإجراءات شديدة تستهدف وأدها في مهدها. وفي ظلّ إصرار قائد الانقلاب، عبد الفتاح البرهان، على تعزيز أركان سلطته، يبرز احتمال وقوع أحداث دموية، بدا لافتاً إعراب المبعوث الأميركي إلى القرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، مسبقاً، عن قلقه من اندلاعها. وإذ لا تزال واشنطن على تحفّظها عن وصف ما شهده هذا البلد يوم الاثنين الماضي بـ«الانقلاب»، مكتفيةً بعدّه استيلاءً على السلطة، فهي تُواصل تأطير موقفها بشعار «الوقوف إلى جانب شعب السودان وكفاحه السلمي» كما قال الرئيس الأميركي، جو بايدن، ملقيةً بما قد يراه الانقلابيون «حبْل خلاص» بالنسبة إليهم، عبر دعوة «جميع الأطراف إلى استعادة رؤية مشتركة لاستكمال انتقال البلاد إلى الديمقراطية»، على حدّ تعبير بايدن نفسه.
هذه الدعوة لم يتردّد البرهان في تلقّفها، إذ تلبّس سريعاً لبوس الحريص على إنجاح العملية الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، بإعلانه نيّته تصعيد رئيس وزراء من التكنوقراط في غضون أسبوع، قد يكون عبد الله حمدوك نفسه، إذا ما نجح العسكر في إقناع الأخير بتشكيل حكومة جديدة. وفي هذا الإطار، قال البرهان في مقطع فيديو بثّته قناة «الجزيرة» القطرية مساء الخميس: «أرسلنا له الناس ودخلنا له و(قلنا له)... كمل معانا المشوار... وما زال لدينا أمل»، مضيفاً: «قلنا له احنا نضفنا لك الميدان الآن... وهو حرّ يشكّل الحكومة، ما بنتدخّل في تشكيل الحكومة، أي زول (أحد) يجيبه ما هنتدخّل إطلاقاً». وفي الاتجاه نفسه، جدّد قائد الجيش، في تصريحات إلى وكالة «سبوتنيك» الروسية أمس، تعهّده بـ«(أننا) لن نتدخّل في اختيار الوزراء»، مطمْئناً إلى أن من «سيَختارهم هو رئيس الوزراء الذي سيتوافق عليه مختلف قطاعات الشعب السوداني».
فيلتمان: البرهان سيكتشف أنه سيحتاج إلى شراكة حقيقية مع المجتمع الدولي


هكذا، يجيء البرهان الغرب ببضاعة يَعتقد أنها ستَروج لديه، انطلاقاً من حديث فيلتمان عن أن «البرهان سيكتشف أنه سيحتاج إلى شراكة حقيقية مع المجتمع الدولي ومع الشعب السوداني». لكن قائد الانقلاب لن يغامر، بحال من الأحوال، في إعادة إنتاج الشراكة نفسها التي أُرسيت عقب إطاحة البشير قبل سنتَين ونصف سنة من الآن؛ إذ من المتوقّع أن يواجه أيّ ائتلاف جديد المشكلات نفسها التي ابتُلي بها الائتلاف القديم، بحسب ما يقدّر مركز «ستراتفور» الاستخباري الأميركي. ولذا، سيسعى البرهان إلى الإتيان بشخصية إلى رئاسة الحكومة تكون طوْع يديه، وتضمن له سير الأمور على ما يهوى إلى حين إجراء الانتخابات الموعودة عام 2023. كما سيشتغل على تهشيم القوى المدنية التي شكّلت مصدر إزعاج له على مرّ الفترة الماضية، وهو ما قد يتطلّب زيادة جرعة العنف في الشارع، بهدف إشاعة أجواء من الرعب، وكبح جماح الأطراف التي تقود اليوم الحملة المضادّة للانقلاب. ومن هنا، لا يُستبعد أن تدخل البلاد في دوّامة متجدّدة من الاضطرابات، شبيهة بتلك التي أعقبت سقوط البشير، وبلغت ذروتها بفضّ اعتصام القيادة العامة، وفق ما يرجّح «ستراتفور» أيضاً. كذلك، «قد يحاول الجيش أو رجال الواجهة من المدنيين التابعين له اتّخاذ خطوات دبلوماسية رفيعة المستوى، مثل إرسال البشير أخيراً إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، أو عقد سلام علناً مع إسرائيل (علماً بأن حكومة حمدوك كانت تدرس أساساً هذين المسارَين بشكل حذر)»، والكلام لألبرتو فرنانديز، الرئيس السابق للبعثة الأميركية في السودان، والذي يُعرب عن اعتقاده، في تحليل لصالح «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، بأن «الحلفاء الإقليميين أقنعوا العسكر بأن التداعيات تحت السيطرة، وأن خطّتهم لإقامة حكومة مدنية تكنوقراطية ستقنع في النهاية قسماً كبيراً من المجتمع الدولي لإبقائهم في السلطة والحصول على مساعدات أجنبية كافية».
ولعلّ هذا تحديداً هو ما يراهن عليه حمدوك، مستلهماً في ذلك تجربة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الذي تفاوت مستوى الودّ الأميركي له ما بين إدارات باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن، من دون أن ينعكس تغييراً في جوهر العلاقة. وفيما يلمس الانقلابيون السودانيون اليوم إشارات إلى أن «المجتمع الدولي سيعمل فقط على جعل قرارهم أقلّ سوءاً» بحسب فرنانديز، فإن أداء الإدارة الأميركية، التي «كان بإمكانها اتخاذ المزيد من الإجراءات وبصورة عاجلة لدعم تصريحاتها المؤيّدة لحقوق الإنسان والديمقراطية»، وفق ما يأخذ عليها المسؤول السابق، يُظهر أن «أزمة الشعب السوداني هي أيضاً أزمة للدبلوماسية الأميركية؛ إذ يبدو أن كلّ ما سعت إليه إدارة بايدن في السودان قبل يومين من الانقلاب إمّا كانت له نتائج عكسية أو على الأرجح أثبت أنه غير ذي صلة بمؤامرة كانت تُحاك أساساً بينما كان فيلتمان يلتقي بالجنرالات»، على حدّ تعبير فرنانديز.