لندن | تسبّبت صفوف الانتظار الطويلة أمام محطّات الوقود في بريطانيا، ومشاهد الرفوف الفارغة في محالّ البيع بالتجزئة، بسريان موجة من التشفّي على البرّ الأوروبي، بعدما حاولت الصحافة اليمينية تصوير ما حدث على أنه «حالة موقّتة» مرتبطة بنقص حادّ في أعداد سائقي الشاحنات المؤهّلين، تسبّب فيها قرار بريطانيا إسقاط عضويتها في الاتحاد الأوروبي، وما ترتّب على ذلك من إجراءات توقَّف بموجبها تدفّق السائقين الأوروبيين إلى البلاد، ومغادرة حوالى 25 ألفاً من المقيمين منهم بلا عودة، خلال العام الماضي. وفيما أدّى وباء «كورونا» إلى تقليص قدرة الهيئة المكلَّفة بالإشراف على تدريب ومنح تراخيص قيادة الشاحنات إلى حدّها الأدنى تاريخياً، فإن الحكومة البريطانية - التي يديرها حزب المحافظين - استيقظت أخيراً على فجوة نقص تُقدّر بـ150 ألف سائق لن يكون ممكناً جسرها قبل عدّة أشهر، وفق أكثر التّوقعات تفاؤلاً. لكنّ هذه الأزمة التي يسهل تصوير تمظهراتها ونقلها عبر الشاشات إلى العالم، ليست سوى قمّة جبل الجليد في كارثة بريطانية مثالية متعدّدة الأوجه: إمدادات الطاقة (الغاز والبترول والكهرباء)، والتعليم والزراعة والبناء والمحاكم والتصنيع والاستيراد والتصدير وصناعة الضيافة وتجارة التجزئة والتقديمات الاجتماعية والنقل والإنترنت، وقبل كل شيء، سياسة الصحة العامة. كارثةٌ تمّ التأسيس لها على مدى عقود طويلة من تبنّي العقيدة النيوليبرالية منذ أيّام مارغريت تاتشر إلى اليوم، واحتكار اليمين البريطاني للسلطة من خلال حكومات شوفينية التوجه، تخصّصت في شنّ حرب طويلة على الطبقة العاملة.حربٌ تضمّنت تفكيك مؤسّسات القطاع العام (النقل، البريد، الاتصالات، إمدادات الطاقة...) وبيع أصولها بالقطعة إلى رأس المال الأجنبي، وغالباً من دون توفير حماية تُذكَر لكفاءة الخدمات المقدَّمة للمستهلكين، والتخلّص من الصناعات الأساسية الحيوية، ونقل ثقل الاقتصاد إلى مربّع الخدمات المالية والسياحة والعقارات والتعليم الخاص - الموجّهة أساساً لجلب استثمارات من الخارج جلّها يندرج تحت غطاء تبييض الأموال من الفئات الفاسدة في العالم الثالث -، وأيضاً سحق النقابات العمالية بمحض القوّة، وإهمال الاستثمار في تجديد البنية التحتية وشبكات إمداد وتخزين الطاقة والتعليم، وصرف أموال الناخبين على إنقاذ المصارف الفاشلة والتمدُّد العسكري عبر البحار، والمشاركة في كل غزو أميركي لأيٍّ من دول العالم، والإنفاق على التسلّح النووي وبرامج التجسّس، في مقابل تنفيذ حزمة برامج تقشّفية قاسية وَضعت ملايين البريطانيين تحت خطّ الفقر والعوَز.
ستوقف الحكومة دفعةً أسبوعية إضافية كانت تمنحها للمواطنين الفقراء والعاطلين من العمل


كلّ ما سبق، راكم تغييرات متوازية جرى التعامل معها دائماً بمنطق إدارة الأزمة، أو بالتجاهل التّام، وفق صيغة «دع السوق تعدّل نفسها»، أو حتى بمزيد من الخصخصة. لكنّ الأمور شرعت الآن، كما يظهر، بالانتقال نحو تغييرات نوعية كارثية تلاقت على إطلاقها الإدارة الفاشلة لجائحة «كوفيد-19»، كما التهوّر الإيديولوجي الموهوم وأحلام استعادة مجد الإمبراطورية الزائل والتي دفعت المحافظين إلى قرارهم إسقاط عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وهي ميزة استراتيجية قدّمت للدول الأعضاء، على الرغم من كل المآخذ عليها، نوعاً من شبكة أمان تكاملية.
تواجه بريطانيا، اليوم، أوضاعاً لا تُحسد عليها. فالبلاد لمّا تتعافَ بعد من التداعيات المترتّبة على الأزمة الوبائية، فضلاً عن أن هناك تخوّفاً حقيقياً - في الأوساط العلمية - من موجة متجدّدة قاسيّة تلوح في الأفق، وترقُّب لارتفاع جنوني في أسعار الغاز (مصدر الطاقة الرئيس لتدفئة المنازل وتوليد الكهرباء وتشغيل المعامل والزراعة) بعد خلل أصاب خطوط النقل من أوروبا عبر بحر المانش، وتقلُّص الإمدادات المحلية من بحر الشمال، مع رصيد مخزون استراتيجي يكفي بالكاد لأربعة أيام. كما أن هناك عجزاً حادّاً في قدرة شبكات الإمداد على توفير احتياجات المملكة من المحروقات والمواد الخام، والمنتجات الاستهلاكية من الغذاء بأنواعه، إلى الألعاب، ما يمكن أن يؤدّي إلى تضّخم غير مسيطَر عليه في أسعار الخدمات والسلع المقدَّمة للمستهلكين - عند توفرها -، فيما أعلنت الشركة الأميركية التي تنتج معظم إمدادات غاز الـ CO2 - الحيوي لبعض الصناعات التحويليّة - أنها ستتوقّف عن العمل، وستُشهر إفلاسها. ومن المعروف أن شبكة الإنترنت في البلاد تُعدّ الأسوأ من نوعها مقارنة بدول غرب أوروبا، كونها متأخرّة عدّة سنوات على خلفية رفض تبنّي حلول الجيل الخامس للاتصالات، والتي توفّرها الصين.
في الوقت ذاته، ستوقف الحكومة، مع نهاية تشرين الأول المقبل، دفعةً أسبوعية إضافية كانت تمنحها للمواطنين الفقراء والعاطلين من العمل (جزئياً أو كلياً من الذين يتلقّون إعانات اجتماعية) لمساعدتهم على تجاوز مرحلة العزل التي رافقت الجائحة، في ظلّ إعادة فرض بنود تعجيزية للحصول على المعونات كانت قد علّقتها لبعض الوقت، فيما ترتفع تكاليف الخدمات والمواد الاستهلاكية بلا رقيب، علماً أن المنافسة التجارية في معظم القطاعات الحيوية إمّا وهمية إلى حدّ كبير، أو مبنيّة على أسس هشّة على نحو متزايد لمصلحة عدد صغير من عمالقة المحتكرين متعدّدي الجنسية. وفي تقاطع جناحَي المقصّ هذا، ستجد الطبقة العاملة البريطانية نفسها وهي تستعيد أجواء السبعينيات الكئيبة، وأقتمها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما شتاء عام 1979 عندما وصلت الأزمة الاقتصادية إلى ذروتها في ما سمّي «شتاء السّخط»، وهي أجواء يكفي مجرّد التفكير في العودة إليها لجعل قادة الحكومة الحالية يرتجفون من قلق انحدار الجزيرة إلى الفوضى والاضطرابات المحمّلة ببذور ثورة بلا رأس، الأمر الذي دفع صحف اليمين المؤيّدة للمحافظين إلى التحذير من تسونامي مقبل بدأت معالمه الأوليّة بالظهور.