بعد أقلّ من شهر على جولة وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، الآسيوية، وصلت نائبة الرئيس، كامالا هاريس، إلى دولتَين كانتا أصلاً مشمولتَين ضمن زيارة الأوّل، وهما: سنغافورة وفييتنام. جولة هاريس الباهتة التي اختُتمت، يوم أمس، طرحت، لدى المراقبين، جملة أسئلة، عن توقيتها المحرج بالنسبة إلى الولايات المتحدة وأهدافها، فضلاً عن حصرها بهذين البلدين تحديداً. ولعلّ الإجابة عن السؤال الأخير لا تحتاج إلى كثير مجهود، إذ سعت الإدارة الأميركية إلى تسهيل مهمّة نائبة الرئيس، لضعف خبرتها ومعرفتها بالسياسة الخارجية. وتجلّي هذه الرحلة، التي جاءت في خضمّ أزمة الانسحاب الأميركي من أفغانستان، نقاط الضعف في نهج إدارة جو بايدن تجاه آسيا، على رغم الاندفاعة التي تبديها إزاء بكين، وخطاب المنافسة الاستراتيجية الذي لم يحِد، ولو قليلاً، عن ذاك المعتمَد إبّان عهد دونالد ترامب.وتُعدّ سنغافورة خياراً آمناً بالنسبة إلى نائبة الرئيس الأميركي، كونها الدولة الوحيدة في جنوب شرق آسيا التي تمنح الولايات المتحدة وصولاً عسكرياً آمناً، فيما «يعترف» قادتها بأن الوجود العسكري الأميركي ضروري للحفاظ على استقلاليتهم الاستراتيجية والتوازن الإقليمي الأوسع، وهو ما يجعل هذا البلد حريصاً على فعل ما يلزم لإشراك الولايات المتحدة في المنطقة. وفي ما يخصّ بحر الصين الجنوبي، العقدة الأبرز في هذه المنطقة، تعدّ هانوي، حليفتها الأميركية، جزءاً أساسياً من التوازن الاستراتيجي لردع بكين، على رغم محدودية العلاقات العسكرية الأميركية ــــ الفييتنامية، والثقل الذي لا تزال تلقيه حرب فييتنام على العلاقات بين البلدين. لكن سنغافورة وفييتنام هما الاستثناء، وليس القاعدة في جنوب شرق آسيا، إذ تظلّ البلدان الأخرى حذرة إزاء الارتماء التامّ في الحضن الأميركي، نظراً إلى مصالحها الاقتصادية الواسعة مع الصين، ونظراً أيضاً إلى «النهاية غير السعيدة» ــــ أميركياً ــــ لحرب أفغانستان الطويلة.
من فييتنام، محطتها الثانية والأخيرة، وبينما كانت عمليات الإجلاء تتواصل في مطار كابول، أرادت هاريس، في هذا التوقيت، الاشتغال على تعزيز تحالفات بلادها في مواجهة الصين لزيادة الضغوط عليها، ودفعها تالياً إلى التراجع عن مطالباتها «التعسفية» بالسيادة على بحر الصين الجنوبي. وفي اللقاء الذي جمعها، أوّل من أمس، إلى الرئيس الفييتنامي، نغوين شوان فوك، قالت إن «علينا أن نجد سبلاً للضغط وزيادة الضغوط على بكين لكي تعيد النظر في مطالباتها البحرية التعسفية والمفرطة» بالسيادة في منطقة استراتيجية تطالب دول عدّة في جنوب شرق آسيا، من بينها فييتنام، بالسيادة عليها. وفيما أكدت أن بلادها العازمة على «مساعدة فييتنام في تطوير قدراتها الأمنية البحرية فيه»، ستُبقي على حضورها القوي في بحر الصين الجنوبي، سارعت الصين إلى الردّ على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية، وانغ وينبين، الذي شدّد على أن بكين «تعارض بشدّة نشر قوات للتدخُّل في الشؤون الإقليمية وزعزعة السلام والاستقرار الإقليميَّين». وكانت هذه المرة الثانية في غضون يومين، التي تهاجم فيها هاريس الصين، إذ اتهمتها، من سنغافورة، المحطّة الأولى ضمن جولتها الآسيوية، بمواصلة «ممارسة الضغوط والإكراه والترهيب والمطالبة بالغالبية العظمى من بحر الصين الجنوبي»، معتبرةً أن «تصرفاتها تستمرّ في تقويض النظام العالمي المستند إلى القانون، وفي تهديد سيادة الدول».
جاءت زيارة هاريس لفييتنام في توقيت حرج بالنسبة إلى الولايات المتحدة


وبعيداً من التصريحات المكرّرة، واشتغال واشنطن على تمتين علاقاتها في منطقة آسيا ــــ المحيط الهادئ، جاءت زيارة هاريس لفييتنام في توقيت حرج بالنسبة إلى الولايات المتحدة، في خضمّ عمليات إجلاء تسودها الفوضى من مطار العاصمة الأفغانية، كابول، حيث يسابق حلفاء «الأطلسي» الزمن لإنهاء المهمّة بحلول نهاية الشهر الجاري؛ إذ أعاد سقوط كابول بيد حركة «طالبان»، بعد عشرين عاماً، إلى الأذهان ذكريات من حرب فييتنام وعمليات الإجلاء الفوضوية من سايغون (1975). لكن في خضمّ تنازع الصين والولايات المتحدة النفوذ السياسي والهيمنة البحرية في منطقة آسيا ــــ المحيط الهادئ، تكتسي فييتنام أهميّة استراتيجية واقتصادية كبيرة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، إذ سعت المسؤولة الأميركية إلى تهدئة المخاوف من تصاعد التوتّر، وأكدت في سنغافورة أن هذا الأمر يجب ألّا يدفع الدول القريبة من القوتَين العظميَين إلى الاختيار بين أحد المعسكرين، وخصوصاً أن هانوي تحاول خطّ طريقها الخاص بين واشنطن وبكين. ولم تنسَ هاريس أن تؤكد أن «التزامنا في جنوب شرق آسيا ومنطقة الهند ــــ المحيط الهادئ غير موجّه ضدّ أيّ دولة ولا يهدف إلى إرغام أيّ كان على الاختيار بين الدول». مع هذا، فإن الأزمة في أفغانستان عزّزت الشكوك حيال متانة الدعم الأميركي لشركاء واشنطن، وألقت بظلالها على زيارة هاريس لجنوب شرق آسيا، وخصوصاً أن نائبة الرئيس الأميركي برّرت قرار بايدن الانسحاب من أفغانستان، باعتباره «شجاعاً وصائباً»، متعهّدة، في الوقت ذاته، «بالتزام دائم» للولايات المتحدة في آسيا، لطمأنة دول المنطقة، إلى أن واشنطن، كما كرّرت، مراراً، «شريك يمكن الاعتماد عليه».


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا