في توقيت ليس الأنسب البتّة، في ذروة الانشغال الأميركي بفوضى الانسحاب من أفغانستان، يواصل رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، زيارته إلى الولايات المتحدة، التي يبدو عنوانها الرئيس، كما كان متوقّعاً: إيران. إلّا أن الزيارة، خلافاً لما يؤمل منها في تل أبيب، لن تُحقّق الكثير في هذا الإطار؛ فهي لا تتجاوز كونها تكراراً للشيء نفسه المتمثّل في الصراخ بـ«أمسكوني وإلّا». وإذا كانت إسرائيل تدرك، جيداً، أنه لا مناص في نهاية المطاف من الإقرار بالأمر الواقع، واليأس من إمكانية دفْع واشنطن إلى مواجهة مباشرة مع طهران، فهي تأمل، من خلال مساعيها تلك، أن تدفع الولايات المتحدة نحو موقف أكثر تشدّداً من إيران، التي «تنتهج عملية تدريجية لحشر دولة إسرائيل وإضعافها، وفي نهاية الأمر تدميرها»، وفق ما يحذّر منه قائد جبهة إيران في جيش العدو، طال كالمان
باستثناء التقاطه صوراً ومقاطعَ مصوّرة مع قادة الإدارة الأميركية، وفي مقدّمهم الرئيس جو بايدن، فإنّ زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، إلى واشنطن لن تُحقّق أيّ «نتيجة استراتيجية» فوريّة، وإن كان الأمل في تل أبيب لا يزال معقوداً عليها، في تغيير موقف إدارة بايدن من الملفّ الإيراني، ودفعها إلى مواجهةٍ مع طهران. بخلاف ذلك، ستبقى زيارة بينت على هامش الأحداث المؤثّرة، وإن أنتجت شيئاً فسيكون في مستوياتٍ أدنى من الملفّ النووي، وسياقاته المباشرة. وعلى رغم أن جدول أعمال الزيارة متشعّبٌ جدّاً (معظمه ملفّات غير عالقة، يجري بتّها في لقاءات المستويات المعنيّة لدى واشنطن وتل أبيب، وإن سجّلت إسرائيل في بعضٍ منها تحفّظاتٍ على التوجّهات الأميركية إزاءها)، إلّا أن «التهديد الإيراني» يتقدّم أيّ شأنٍ آخر، مع ما يحمله من وجوهٍ متعدّدة، بدءاً من ساحات التهديد الأخرى المرتبطة به، مروراً بمشاريع التطبيع وإمكانيّة تنميتها مع أنظمةٍ عربية جديدة لمواجهة إيران أيضاً، وصولاً إلى الأحلاف السياسيّة والأمنية في المنطقة حيث «التهديد الإيراني» مشترك بين إسرائيل والعديد من الأنظمة في الإقليم، وليس انتهاءً بالاقتدار الإسرائيلي العسكري والأمني لمواجهة طهران وحلفائها، خصوصاً على مستوى تأمين الممرّات البحرية التي طرأ عليها خطرٌ مستجدّ، هو في الأساس محلّ أخذٍ وردّ بين الجانبين، قبل الزيارة.
إذاً، مروحة التهديد واسعة جداً، وإن كان المشترك والثابت في ما بينها هو إيران. فإيران ليست القضية النووية، أو سعيها إلى امتلاك سلاحٍ نووي وفق ما تدّعي تل أبيب، بل ثمّة تهديدات كثيرة تحت هذا السقف، ينشط الجانبان، الإسرائيلي والأميركي، في محاولة صدّها، وهو واقع سابق للزيارة، ولن يختلف كثيراً في ما بعدها. بهذا المعنى، لا تستهدف الزيارة تقريب وجهات النظر أو إنهاء الاختلافات أو التوصّل إلى تسويات، ذلك أن القرارات تُتَّخذ بشكلٍ مشترك، وتُنفَّذ بالشراكة أيضاً، بغضّ النظر عن طبيعتها ومستواها وطريقة تنفيذها والجهة المتصدّية لها. لكن، هل يعني ما تَقدّم تطابق تشخيص الطرفين للتهديدات وآلية مواجهتها؟ الواقع أن الموقفَين يتباينان في كلّ شأن «تهديدي» تقريباً، وإن بقدرٍ أو بآخر، في نتيجةٍ طبيعية لاختلاف مدى القرب من منبع التهديد، ومحدوديّة القدرة الذاتية أو اتّساعها على مواجهته، أو امتلاك الأدوات الآنية للتصدّي له من دون امتلاك أدواتٍ لاحقةٍ للحيلولة دون تطوّره وتناميه. إلّا أنّ التباين المذكور لا يسمح لإسرائيل، على أيّ حال، بأن تُقدِم على ما من شأنه الإضرار بمصالح الولايات المتحدة أو توجّهاتها أو خياراتها في المنطقة، وهو ما لم يحدث إلى الآن على الأقلّ، علماً أنّ مروحة المصالح الأميركية واسعة جداً، وهي تفرض على واشنطن كوابح ومحفّزات قد تكون غير ذات شأنٍ لتل أبيب.
واحد من أهمّ أهداف زيارة بينت دفْع واشنطن إلى الاقتراب أكثر من الموقف الإسرائيلي


هنا، يتّضح واحد من أهمّ أهداف زيارة بينت: دفْع واشنطن إلى الاقتراب أكثر من الموقف الإسرائيلي، أي حمْلها عملياً على مواجهة ما ليست تل أبيب قادرة عليه ذاتياً، وإن تسبّب ذلك بحروبٍ لم تَعُد على رأس خيارات أميركا، بعدما لمست بالتجربة أن تكلفتها تفوق جدواها. ولتحقيق هدفها، تعمل إسرائيل على تأمين المقدّمات اللازمة للضغط على الأميركيين، والتي يأتي على رأسها تظهير اتحاد الإسرائيليين على رفض أيّ تسوية مع إيران، والاستعداد لمواجهةٍ منفردة معها، إن لم تكن نتيجة المفاوضات متوافقة مع الحدّ الأدنى الذي تريده تل أبيب. وفي هذا السياق تحديداً، يأتي حديث وزير الأمن، بني غانتس، عن أنه لا يستبعد أن تعمل إسرائيل منفردة ضدّ إيران، التي «يجب على المجتمع الدولي بناء خطة بديلة قابلة للتطبيق من أجل وقف مسارها نحو سلاحٍ نووي»، هي «على بُعد شهرين فقط من الحصول على المواد اللازمة» له، بحسب ادّعاء غانتس. وفي الإتجاه نفسه، جاء إعلان رئيس الأركان، أفيف كوخافي، أن الجيش قرّر تسريع خططه العمليّاتية ضدّ إيران بسبب تقدّم برنامجها النووي، بما في ذلك احتمال توجيه ضربةٍ إليها إذا لزم الأمر. وعلى خطّ موازٍ، برزت الحملة التي قادها بينت نفسه عبر وسائل الإعلام الأميركية، ليس من أجل إضفاء مصداقيّةٍ على ما صدر من تهديداتٍ عن تل أبيب فقط، بل أيضاً لوضع الزيارة على جدول الاهتمام الأميركي، الذي بدا مشغولاً بملفّاتٍ أخرى أكثر إلحاحاً، على رأسها الانسحاب من أفغانستان.
بالنتيجة، يمكن القول إن إسرائيل تفعل «المزيد من الشيء نفسه»، وإن كان الشيء نفسه، المتمثّل في استراتيجية «أمسكوني وإلا»، أثبت فشله. فلا الظرف يساعد، ولا التهديد يساعد، ولا المواقف الرافضة والمحرّضة أيضاً تساعد، خصوصاً في ظلّ محدوديّة الخيارات أمام الإدارة الأميركية. وهذا ما تدركه تل أبيب، التي تعرف أن من سيقرّر إن كان الاتفاق النووي سيمضي هذه المرّة، هي إيران نفسها، وليس أيّ طرفٍ آخر. لكن إسرائيل تهدف، من خلال تحرّكاتها تلك، إلى تسجيل موقفها الرافض، مع إدراكها أنها مجبرة في نهاية المطاف على الإذعان للموقف الأميركي. وهي، في ذلك، تتّخذ صفة الجهة التي تنازلت، أملاً في استحصال مكتسبات من الإدارة، إمّا لجهة التعويض الأمني والعسكري الذي تعرف جيداً كيف تنتهز الفرص للحصول عليه، وإمّا عبر زحزحة الموقف الأميركي نحو مقاربةٍ أكثر تطرّفاً في مواجهة عناصر التهديد «غير النووية» المتّصلة بإيران.