لا يبدو أن استراحة الاقتتال الأفغاني، المفروضة راهناً بقوّة الأمر الواقع والفزعة التي أصابت طيفاً معتبَراً من الأفغان بعد تمكُّن حركة «طالبان» من دخول العاصمة كابول والتربُّع مجدَّداً على السلطة، ستدوم لوقتٍ طويل. يجلّي هذه الخلاصة ما يجري الإعداد له في وادي بانشير، حيث باشرت شخصيتان أفغانيتان بارزتان، هما: نائب الرئيس السابق أمر الله صالح، وأحمد مسعود، ابن أحمد شاه مسعود، تنظيم صفوف «مقاومة» مسلّحة لمواجهة «طالبان». وعلى رغم تمكُّنهم من التمدُّد نحو جميع الأقاليم الأفغانية، بما فيها كابول، ظلّ بانشير (شمال وسط)، عصيّاً على مقاتلي الحركة، نظراً إلى جغرافيته المعقّدة، حيث تحيط الوادي البالغة مساحته ما يزيد على 3600 كيلومتر مربع، جبال هندو كوش الشاهقة، فضلاً عن كونه يُعدّ معقلاً للطاجيك الأفغان، حيث العداء قديم بين أهله وبين الحركة البشتونية.إزاء ما تقدّم، تعيش أفغانستان، التي تودّع في هذه الأيام احتلالاً استمرّ على مدى عقدين متواصلَين على وقع عودة «طالبان» إلى السلطة بخطاب جديد تسعى من ورائه إلى اكتساب شرعية إقليمية ودولية، «بروفا» حرب أهلية، وسط التحضيرات الجارية في إقليم بانشير ليكون، كما الحال أيّام الغزو السوفياتي، جبهة متقدّمة في المعركة المقبلة. ويكتسب الإقليم رمزيةً خاصة، لكونه معقل قائد «المجاهدين» الراحل، أحمد شاه مسعود، الذي تزعّم «تحالف جبهة الشمال» لإطاحة «طالبان» قبل الغزو الأميركي وبعده. وفي حين يشتغل أحمد مسعود وأمر الله صالح على رصّ صفوف «المقاومة» لرفضهما الاستسلام للواقع الجديد الذي فرضه انسحاب القوات الأميركية والأطلسية من أفغانستان والانهيار السريع للجيش الأفغاني، يرى مراقبون أن «المقاومة لا تزال شفهية في الوقت الحاضر، لأن طالبان لم تحاول دخول بانشير». وبحسب أستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس الأولى «بانتيون سوربون»، جيل دورونسورو، المتخصّص في الشأن الأفغاني، فإن «العلاقات بين أحمد مسعود وأمر الله صالح معقّدة بعض الشيء، ثمة عدم تناغم بينهما منذ البداية»، فضلاً عن أن «أحمد مسعود لا يتمتّع بموقع رسمي في النظام، إنه شخص لا يحظى بدعم قوي في أفغانستان خارج بان
يُعدّ وادي بانشير معقلاً للطاجيك الأفغان، حيث العداء قديم بين أهله وبين الحركة البشتونية

شير». ومع هذا، يواصل الرجلان مسعاهما إلى إحياء «تحالف الشمال»، عبر مناشدة الغرب المُنسحب تزويدهم بالسلاح لإطاحة «طالبان»، التي حثّت أئمة المساجد على الدعوة إلى الوحدة الوطنية، وإقناع الناس المحتشدين في مطار كابول بعدم مغادرة البلاد.
وحتى قبل وصول مقاتلي الحركة إلى تخوم العاصمة، كان العديد من رموز حكومة الرئيس الأفغاني الفار، أشرف غني، توجّهوا إلى بانشير، وعلى رأسهم أمر الله صالح، الذي أعلن نفسه، قبل أيّام، رئيساً موقّتاً للبلاد. وكتب عبر «تويتر»: «لن أنحني أبداً، وتحت أيّ ظرف، لإرهابيّي طالبان. لن أخون أبداً روح وإرث بطَلي أحمد شاه مسعود، القائد، الأسطورة والمرشد. لن أخيّب آمال الملايين الذين استمعوا إليّ. لن أكون أبداً تحت سقف واحد مع طالبان». أمّا أحمد مسعود الذي يقود آلاف المقاتلين، فأعلن، الأربعاء، اعتزامه «المقاومة» ضدّ مَن وصفهم بـ»المحتلّين»، مؤكداً أنّ والده «كان يكافح من أجل أفغانستان حرّة، تعمل فيها النساء وتدرس، وتتوفّر فيها حرية الإعلام». وفي مقالة نُشرت في صحيفة «واشنطن بوست»، كتب مسعود أن والده «كان يقاتل من أجل أفغانستان، ولكن أيضاً من أجل الغرب»، لا سيما أن، «التعاون المشترك في هذا الصراع، ضروري أكثر من أيّ وقت مضى في هذه الساعات المظلمة والمتوترة لوطني». وأبدى الشاب الثلاثيني استعداده لاتباع خطى والده لمواجهة «طالبان»، لافتاً إلى أن لديه «مخازن ذخيرة وأسلحة جمعناها بصبر منذ عهد والدي، لأننا علمنا أن هذا اليوم قد يأتي. ولدينا أيضاً الأسلحة التي يحملها الأفغان الذين استجابوا خلال الساعات الـ72 الماضية لندائي للانضمام إلى المقاومة في بانشير. لدينا جنود من الجيش النظامي الأفغاني اشمأزوا من استسلام قادتهم، وهم يشقّون طريقهم الآن إلى تلال بانشير. كما انضم أعضاء سابقون في القوات الخاصة الأفغانية إلى نضالنا». إلا أن ما يملكه مسعود «لا يكفي»، إذ يقول: «إذا شنّ أمراء الحرب من طالبان هجوماً، فسيواجهون بالطبع مقاومة شديدة منّا، لكننا نعلم أن قواتنا العسكرية وإمكاناتنا اللوجستية لن تكون كافية، وستنفد بسرعة ما لم يجد أصدقاؤنا في الغرب طريقة لتزويدنا بهذه الإمكانيات من دون تأخير». وأضاف: «غادرت الولايات المتحدة وحلفاؤها ساحة المعركة، لكن لا يزال بإمكان أميركا أن تكون ترسانة كبيرة للديموقراطية. ولهذه الغاية، أناشد أصدقاء أفغانستان في الغرب الوقوف إلى جانبنا: في واشنطن ونيويورك، أمام الكونغرس وإدارة الرئيس جو بايدن. وفي لندن، حيث أكملت دراستي، وفي باريس، حيث تم تكريم ذكرى والدي الربيع الماضي من خلال تسمية ممر باسمه في حديقة في الشانزليزيه». واعتبر أن «طالبان ليست مشكلة الشعب الأفغاني وحده، وتحت سيطرتها ستصبح أفغانستان بلا شكّ نقطة انطلاق للإرهاب الإسلامي المتطرّف».
وفي الإطار نفسه، بدا لافتاً مسارعة روسيا إلى التعليق على التطورات في بانشير، إذ لفت وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، إلى ما يجري في هذا الإقليم، داعياً إلى إجراء محادثات من أجل تشكيل «حكومة لها صفة تمثيلية» في أفغانستان، مؤكداً أن بلاده كانت تصرّ في الأساس على آلية من هذا النوع لإنهاء النزاع الأفغاني قبل سقوط كابول. وحذّر لافروف من أن «طالبان لا تسيطر على كل الأراضي الأفغانية. تصل معلومات عن الوضع في وادي بانشير حيث تتمركز قوات المقاومة التابعة لنائب الرئيس صالح وأحمد مسعود».



أحمد مسعود يَرِث أبيه
كان أحمد مسعود في سن الـ 12 من عمره عندما اغتيل والده، زعيم «المجاهدين» ولاحقاً «تحالف جبهة الشمال»، أحمد شاه مسعود، في التاسع من أيلول 2001 على أيدي تونسيين اثنين، يُعتقد أنهما كانا يعملان بناءً على أوامر مِن زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن». وحتّى في تلك السن الصغيرة، قال مسعود إنه كان واعياً بالإيمان الذي يكنّه الناس لوالده، وفق ما جاء في حوار له مع موقع «آسيا تايمز».
أكمل مسعود الابن دراسته الثانوية في إيران والتحق بعد ذلك بمدرسة عسكرية في أكاديمية «ساندهيرست» المرموقة في المملكة المتحدة، بعد فشله في الالتحاق بكلية «وست بوينت» في نيويورك. ومسعود الذي عاد إلى أفغانستان عام 2016، يقود حزباً سياسياً اسمه «جبهة المقاومة»، هو عبارة عن ائتلاف من المقاتلين المناهضين لحركة «طالبان» في وادي بانشير، وهي المنطقة التي لم يتمكّن الجيش الأحمر السوفياتي ولا قوات «طالبان» من غزوها أو السيطرة عليها من قبل.