لم تتراجع تل أبيب عن المقاربة التحريضية التي باشرت تطبيقها أخيراً ضدّ طهران، في أعقاب استهداف سفينة بمُلكية إسرائيلية في خليج عمان قبل أسبوعين. وهي مقاربة تستهدف استثمار تموضع شركاء إسرائيل العدائي بوجه إيران، واستخدامه في التهويل على الأخيرة، على أمل دفْع أولئك الشركاء إلى العمل الميداني ضدّ الجمهورية الإسلامية، لمنعها من مواصلة استهداف إسرائيل في الساحة البحرية، سواءً ابتداءً أو ردّاً، ومن دون أن تتراجع هي، في المقابل، عن مواصلة اعتداءاتها في ساحات مواجهة أخرى، غير بحرية. هكذا، تبدو «شهيّة» إسرائيل لتحويل التهديد إلى فرصة، كبيرة جدّاً، بل ومتطرّفة. وعلى رغم أن الهجوم والردّ المباشر عليه انتهيا، إلّا أن تداعيات ما بعد الفعل باتت أكثر وضوحاً ممّا كانت عليه سابقاً.أرادت إسرائيل، منذ البداية، تحريض «المجتمع الدولي»، والمقصود هنا الولايات المتحدة تحديداً، على التعامل مع الهجوم على السفينة الإسرائيلية على أنه عمل «جرمي» يستهدف الملاحة الدولية، وليس إسرائيل تحديداً، ما يستلزم الردّ على إيران على نحوٍ كفيل بردعها عن استخدام هذا النوع من السلاح: الساحة البحرية. وفي خلفية ذلك السعي الإسرائيلي، اعتقادٌ بأن ما لا تقدر تل أبيب على فعله، يمكن لـ«الشركاء» التكفّل به، خصوصاً بالنظر إلى دونيّة الأولى في الساحة البحرية، حيث ستفعل ما تستطيع لمنع استمرار المواجهة فيها، فيما تحتاج إلى مدَد في تلك المهمّة من واشنطن وحلفائها. على أن هذه المقاربة الإسرائيلية لم تجِد تجاوباً كبيراً لا في وشنطن ولا في الغرب عموماً، إذ ظلّ التردّد سيّد الموقف هناك. لكن إن لم يكن الفعل الميداني المباشر ممكناً اليوم بحسابات الولايات المتحدة لفوائده وتداعياته وأثمانه، فلْيعلُ الصوت في وجه إيران، وهو ما حصل بالفعل.
تأمل إسرائيل أن تترسّخ في وعي صاحب القرار الإيراني إمكانية الردّ على أيّ هجوم جديد من قِبَله


تطوّرٌ حَقّق، من وُجهة نظر تل أبيب، نتيجة مهمّة يمكن البناء عليها في ما بعد، لدفْع طهران نحو التموضع الدفاعي في مواجهة احتمال قدوم الردّ الأميركي. بتعبير آخر، تأمل إسرائيل أن تترسّخ في وعي صاحب القرار الإيراني إمكانية الردّ على أيّ هجوم جديد من قِبَله، دولياً وليس إسرائيلياً، ما يحول، وفي حدّ أدنى يصعّب، إمكانية الهجوم مجدّداً على هدف بحري إسرائيلي، سواءً ردّاً على اعتداءات إسرائيلية، أو حتى ابتداءً. لكن هل ينجح التهويل، بالفعل، في ردع إيران؟ وإن لم يفعل، فهل ستتلقّى الأخيرة ردّاً في حال إقدامها على هجوم جديد؟ كلّ الفرضيات مطروحة على طاولة التقدير، لكن في المقابل، لا أجوبة واضحة من الآن. إذ إن عوامل تنفيذ التهديد الإسرائيلي - الأميركي أو الامتناع عنه، متداخلة ومتشابكة، ولا تتّصل بالفعل الهجومي نفسه فقط. ولعلّ هذا ما يفسّر تردّد واشنطن، ابتداءً، في تحميل طهران مسؤولية الهجوم البحري الأخير، وإن كانت الولايات المتحدة، كما إسرائيل نفسها، معنيّة بأن تُحيّد إيران عن استخدام الساحة البحرية، ليس لكونها وسيلة قتالية ناجعة في مواجهة إسرائيل، الحليفة التي لا تقبل أميركا الإضرار بمصالحها ومكانتها، بل لكونها أيضاً تهديداً لحلفاء واشنطن وأتباعها في الإقليم، بل ولقوّاتها هي. لكن الولايات المتحدة معنيّة، في الآن نفسه، بتمرير الوقت ومنْع التصعيد، خاصة التصعيد الذي تقوده هي بنفسها، كي لا يؤثّر على جدول أعمالها وأهدافها لهذه المرحلة إقليمياً. أمّا الردّ الإسرائيلي بحرياً، فيبدو صعباً، ودونه تبعات سلبية ستكبح أيّ نيّة لدى تل أبيب للمضيّ فيه.
بالنتيجة، يبدو القرار عائداً، بشكل شبه حصري في هذه المرحلة، إلى الولايات المتحدة، وإن كان صوت إسرائيل عالياً جدّاً، أو حتى إن أقدمت على تنفيذ ردّ من جانبها في ساحة أخرى غير بحرية، بات العزم عليه يُفهم من تهديداتها. ومن هنا، يمكن تفسير الزيارات الأخيرة للمسؤولين الأمنيين الأميركيين إلى تل أبيب، وفي المقدّمة مدير وكالة «سي آي إي»، ويليام بيرنز، الذي لم يُخفِ أن أهمّ ما لديه لـ«يناقشه» مع الإسرائيليين هو «تعزيز التنسيق الاستخباري بين الجانبين، والتهديد الإيراني»، في ما ينبئ بمحاولة الأميركيين «تصفير» احتمالات «المفاجآت» الإسرائيلية في هذا المجال، خاصة في ظلّ إدراكهم محاولة تل أبيب توريطهم في مواجهة مع طهران. كذلك، تبدو الكرة في ملعب الجانب الإيراني، الذي عليه هو أن يقرّر اتجاه الأمور، ربطاً - من بين عوامل أخرى - باستمرار أفعال إسرائيل العدوانية في ساحات أخرى، والتي لا تَظهر تل أبيب معنيّة بالتراجع عنها، وهذا يعني في المقابل أن الكرة أيضاً في ملعب الإسرائيلي. وهاهنا يبرز موضع التشابك والتعقيد في ترجيج الفرضيات: فلا إيران معنيّة بالتراجع عن ساحةٍ يدها فيها هي العليا من دون تلقّي «فائدة» في ساحات أخرى، ولا إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، على استعداد للتخلّي عن إمكاناتهما في تلك الساحات، من دون تلقّي ثمن من الإيرانيين الذين يؤكدون أنهم لن يدفعوه. بناءً عليه، يصبح مفهوماً التهديد المتبادل المستمرّ، والتموضع الندّي المتوثب وفي الوقت نفسه الحذِر، فضلاً عن التسريبات في شأن النيّات والاستعدادات الذاتية ونظيراتها لدى «العدو»، وإن كان الكثير ممّا تَقدّم يأتي لخدمة الموقف التهويلي لا العملياتي. على أيّ حال، يبدو أن الساحة البحرية فتحت مواجهة جديدة بين الجانبين، بات من المتعذّر إغلاقها، فيما المفارقة أن الجهة التي باتت الأكثر تضرّراً من هذه المواجهة، هي التي بادرت إلى فتحها، والمقصود بها إسرائيل طبعاً.