«نبع» المشاكل في مستشفى رفيق الحريري الحكومي في بيروت لن ينضب ما لم تُعتمد إصلاحات جذرية لإزالة مخلّفات سنوات من الفساد الهيكلي في أضخم المستشفيات الحكومية في لبنان. في انتظار ذلك، تتكشّف يومياً فضائح على أيدي ضحايا جدد للفوضى والإهمال المتراكم.عدد من الممرضين المخضرمين في المُستشفى، ممن عملوا فيه أكثر من عشر سنوات ويملكون عقوداً من الخبرة في مجال عملهم، يخوضون اليوم معركة قانونية وقضائية ضد رئيسة قسم التمريض و. غ.، وإدارة المُستشفى ممثلة برئيس مجلس إدارته فراس الأبيض.
الشكاوى والدعاوى المرفوعة أمام مجلس شورى الدولة ومجلس العمل تتضمّن اتهامات بالتلفيق والتزوير و«تركيب ملفات» بما يؤدي إلى الصرف التعسفي. علماً أن بعض الشكاوى تعود إلى أكثر من ستة أعوام (تقدّم أحد الممرضين عام 2015 بدعوى جزائية ضد رئيسة قسم التمريض يتهمها فيها بتزوير توقيعه على وصفة دواء لأحد المرضى وتلفيق ملف له والتسبب في خفض فئته)، فيما أقرّت مصادر إدارية داخل المُستشفى بالفوضى الحاصلة على صعيد الصرف والتوظيف وتجاهل أدنى المعايير القانونية التي ترعى العمل المؤسساتي».
تُظهر نصوص الشكاوى التي اطّلعت «الأخبار» على عدد منها أسلوباً مُشتركاً تتبعه رئيسة القسم (المحسوبة على تيار المُستقبل) للإيقاع بموظفي قسمها، وهو يقوم - وفق رواية الممرضين المتضررين - على تشكيل لجنة تحقيق من أعضاء محسوبين لديها يُصدرون قرارات الفصل والتأديب، وأحياناً من دون الاستماع إلى شهادات المتهمين!
الممرض المصروف ضياء المعربوني، مثلاً، تبلّغ قرار فصله شفهياً بعد جلسة واحدة للجنة «التي رفضت الاستماع لشهادتي وكانت تضم مشرف التمريض الذي لديه خصومة شخصية معي». أما «التهمة» التي فُصل من عمله على أساسها، فكانت تقطيبه جراح أحد المصابين في انفجار المرفأ. وإذ يقرّ بأن القانون «يحظر على الممرض تقطيب الجروح، إلا أن الوضع يومها كان استثنائياً. فالطبيب المتمرن الذي كان موجوداً لم يكن متمرّساً كفاية، والجرّاح المعنيّ كان مشغولاً بسبب كثرة الإصابات، علماً أن عشرات الممرضين عملوا يوم الكارثة في تقطيب جروح المصابين من دون أن يواجهوا أي إجراءات مماثلة». ولفت المعربوني إلى أنه «طُلب مني التوقيع على إنذار رقم 4 الذي يسبق الفصل، علماً أنه لم يكن في رصيدي أي إنذارات سابقة (...) وحتى محامي المُستشفى، شخصياً، قال لي إن فصلي غير قانوني لأن ملفي لا يستدعي الفصل».
صُرف أحد الممرضين لتقطيبه جراح أحد المصابين في انفجار المرفأ!


الشاب الذي عمل 11 عاماً في المُستشفى خسر تعويضه ومستحقاته ولا يزال ينتظر تسلّم قرار فصله رسمياً ليستكمل الإجراءات القانونية، ويعبّر عن قناعته بأنه «تم الإيقاع بي»، مشيراً إلى «أنني طلبت قبل انعقاد جلسة التحقيق، في حال كان التوجه الى الطرد، أن يدعوني أقدّم استقالتي. فكان الجواب أنه يستحيل اتخاذ قرار بالفصل من الجلسة الأولى، ووعدني أحدهم بأنه سيتم النظر في حالتي كوني معيلاً لعائلتين... وها أنا اليوم من دون مصدر دخل وعاجز عن تأمين فرصة عمل».
حال المعربوني كحال زميله الممرض علي المصري الذي كان يعمل مشرفاً في قسم العمليات، وصُرف بـ«قرار إداري غير قانوني لصالح ممرضة مقربة من رئيسة القسم» وفق ما أكّد لـ«الأخبار». يوضح المصري الذي يمتلك 26 سنة من الخبرة في التمريض في العمليات أنه سافر لمدة ثلاثة أشهر «وفوجئت لدى عودتي بأنني نُقلت إلى قسم آخر لا أملك الخبرة اللازمة والمطلوبة للعمل فيه». بعدها، «اتُّخذ قرار بصرفي بعد تلفيق تهمة إقدامي على ضرب أحد المرضى بالاستناد إلى تقرير طبي يفيد بعدم اتزاني النفسي». إلا أن اللجنة التي شكّلتها رئيسة القسم «لم تأخذ في الاعتبار شهادات زملائي وغياب الأدلة التي تثبت تهمتي، كما لم تأخذ الإدارة بالتحقيق الذي أجرته نقابة الممرضين والممرضات وتبيّنت بنتيجته براءتي. هكذا، أذعنت إدارة المستشفى لإرادة الإمبراطورة، وها أنا اليوم عاطل من العمل منذ خمس سنوات وأنتظر إنصافي من قبل القضاء».
أحد الممرضين الذي لا يزال يعمل في المستشفى يتهم رئيسة القسم بخفض درجته وراتبه «بهدف تأديبي لأنني رفضت قرار نقلي إلى قسم آخر». وبحسب الشكوى الجزائية التي قدّمها، «لفّقت رئيسة القسم لي تهمة إعطاء دواء خاطئ لأحد المرضى بناءً على مستندات مزوّرة، وأكّد خبير الخطوط أن التوقيع على صرف الدواء لم يكن توقيعي، كما دحضت شهادات الممرضين العاملين معي في القسم التهم التي نسبت إليّ».
ولئن كانت هذه الشهادات والاتهامات «طبيعية» لأن مصدرها موظفون متضررون، إلا ما أورده مفوّض الحكومة السابق في المُستشفى الدكتور وليد عمار في القرار الرقم 200 الصادر عن رئيس مجلس إدارة المُستشفى السابق وسيم الوزان في 30/11/2012 والمتعلق باستقالات ممرضين ونقل دواماتهم ينسجم والاتهامات. إذ يرد فيه حرفياً ما يلي: «أعرب الدكتور وليد عمار أن السيدة و.غ. غير متهمة بالتمييز الطائفي والبرهان أن الاستقالات من الطوائف كافة، وإذا وُجد تمييز لديها فهو للمقربين منها، معلناً أنه يجب أن يكون التحفيز ضمن معايير واضحة وشفافة وليس على أساس المحسوبية»، وهذا ما يشير إلى أن «نهج المحسوبية قديم في المُستشفى بمعزل عن اتهامات الممرضين المتضررين» بحسب المصادر الإدارية التي شدّدت على أن اللجان التي شكّلتها رئيسة القسم «غير قانونية لأنها لم تعد عند تشكيلها إلى مجلس الإدارة وفق ما ينص عليه نظام المؤسسات العامة. كما أن إجراءات التأديب التي تُتخذ لا تلتزم أبسط قواعد القوانين بغطاء من الإدارة وتتجاوز حدّ السلطة». علماً أن «الأخبار» حاولت التواصل مع رئيسة القسم للحصول على تعليق على هذه الشهادات إلا أنها لم تردّ على الاتصالات المتكررة.
وبعيداً من روايات الممرّضين، ثمّة بعد أساسي تثيره هذه القضية يرتبط بشكل أساسي بمفهوم الاستقرار الوظيفي للعاملين وبآلية التوظيف والطرد وانعكاسها على مستوى الخدمات الصحية. فالاستغناء عن ممرضين بخبرات طويلة وإحلال مبتدئين مكانهم والتوظيف العشوائي للعشرات في بقية الأقسام، كلّ ذلك لا يعني إلا مزيداً من انهيار المستوى الصحي في المستشفى الذي تزداد يومياً الحاجة إليه».



الصرف التعسّفي يشمل إداريين أيضاً


لا يقتصر الصرف التعسفي على قسم التمريض، بل يشمل أيضاً إداريين أقدم بعضهم أيضاً على رفع دعاوى قضائية ضد إدارة المُستشفى بشخص رئيس مجلس إدارته ومديره الدكتور فراس الأبيض بتهمة «التجني». أحد الإداريين السابقين رفع دعوى أمام مجلس العمل التحكيمي بحجة أن قرار الصرف «جاء على خلفية مطالبتي بالترقي الوظيفي بما يسمح لي به وضعي القانوني في المُستشفى (...) إلا أنني تبلّغت فوراً قرار صرفي من دون أن أحصل على أيّ تعويض».