قال حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة في مقابلته مع «الحدث» يوم الإثنين إنّ «أموال المودعين ما زالت موجودة. ولو شُكّلت حكومة، لحصل المودع على أمواله بشكلٍ أسرع»، مُصراً على أنّ «النظام المصرفي لم ينهَر كما أنّ المصارف لم تُفلس». قبل المقابلة «التطمينية»، أصدر سلامة في 9 أيار بياناً يَعِد فيه المودعين بتسديد تدريجي للودائع التي كانت قائمة قبل 17 تشرين الأول 2019. ثلاث خِدَع، بفترة لا تتعدّى الشهر، ردّدها الحاكم، وقد تكفّلت المصارف - المُفلسة - بدحضها.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
الـ25 ألف دولار أميركي (كحدّ أقصى) التي وعد سلامة بردّها لبعض المودعين، وبالتقسيط، لا يبدو أنها ستُدفع. والقرار فُرمِل بانتظار إدخال تعديلات عليه، تستهدف بشكل أساسي تضييق دائرة المُستفيدين منه وإيجاد «راعٍ رسمي» للتمويل. فالمصارف لا تُريد دفع دولارٍ واحد. كان مصرف لبنان قد قدّم تقديراً أوّلياً لكلفة العملية بأنّه مليار دولارٍ، قبل أن «يُنبّهه» مصرفيون إلى أنّها لن تقلّ عن 4 مليارات دولار. أراد سلامة تقاسم الكلفة بين «المركزي» والمصارف، فتلقّفتها الأخيرة كحجّة لتفخيخ القرار من أساسه. وتقرّر إعادة المشروع للمزيد من النقاش، مع ممارسة مصارف ضغوطاً حتى يتمّ استثناء مودعين من القرار، كجميع الذين حوّلوا أموالاً إلى الخارج، حتى لو كانت لتعليم أولادهم. مدراء تنفيذيون في المصارف يلعبون بين الحروف: «نُريد ردّ أموال المودعين، ولكن من أين نأتي بها؟ المصارف لا تملك المال». ويُضيفون بأنّه لتأمين سيولة الـ3% التي طُلب إيداعها لدى المصارف المُراسلة في الخارج، «اشترينا الدولارات من السوق، وبعنا شيكات بـ26% من قيمتها في بعض الحالات، ما يعني تكبّد خسائر. لماذا نقبل بإعادة دفعها لأيّ مودع؟».
لا يقف «تمرّد» المصارف غير الأخلاقي والقانوني، برفض ردّ أموال المودعين، عند هذه النقطة. فهي تُمانع أيضاً - ولا سيّما مصارف الفئة «ألفا» - المُشارَكة في منصّة «صيرفة» كعارضٍ للدولار، وتُريدها «مُناسبة» لشراء الدولارات لا غير. الحُجّة نفسها تُستخدم، بأنّها لا تملك السيولة الكافية بالعملات الأجنبية. تحدّث سلامة عن استخدام سيولة الـ3% في الحسابات لدى المصارف المراسلة في الخارج، مع بحثه إمكانية تخفيضها إلى ما بين الـ1% و2%.
لم يُكشف عن أرقامٍ دقيقة حول العجز في حسابات المصارف لدى نظيرتها في الخارج. أرقام آذار 2021 تُشير إلى أنّ العجز مليار و63 مليون دولار، بعد أن كان ملياراً و800 مليون دولار في كانون الأول 2020. بحسب هذا الرقم، تكون المصارف قد أتت بـ800 مليون دولار لتكوين حساب خارجي، من أصل 3.4 مليارات دولار يُفترض جمعها. مع الإشارة، إلى وجود احتمال أنّ المصارف جمعت أكثر من 800 مليون دولار، واستخدمت منها لتسديد فواتير أو كفالات. والأكيد أنّ الرقم سيرتفع أكثر في حزيران حين يكون مصرفا «عوده» و«لبنان والمهجر» قد قبضا أموال بيع فرعيهما في مصر. ولكن في كلّ الحالات، وحتى الساعة، لم تلتزم المصارف بالتعميم 154 (زيادة 20% على رأس المال وتأمين سيولة 3% من قيمة ودائعها بالدولار) وهي تعترف بذلك لـ«ناظم القطاع المالي»، أي مصرف لبنان. فضلاً عن أنّ الملفات التي تدرسها لجنة الرقابة على المصارف، تُظهر فوارق في التخمينات العقارية (التي تدخل في رأس المال)، ما يعني الحاجة إلى الإتيان بمبالغ نقدية أو موجودات عقارية لتأمين الـ20%، التي لن تكون كافية لتعويض الخسائر الضخمة في موازنات مصارف تُعدّ من الأكبر في السوق.
تبيّن أنّ زيادة 20% على رأس المال لن تكفي لتعويض خسائر بعض المصارف


ما يُنقل عن مصرفيين أنّ لجنة الرقابة على المصارف «تُراقب بشكل دقيق جدّاً، وتبدو أحياناً كمن يبحث ليجد ثغرات ومخالفات. وبالفعل أتمّ موظفون في اللجنة تقارير بحقّ العديد من المصارف المُخالفة». إنّما عند هذا الحدّ قرّرت أن توقف اللجنة، برئاسة ميّة دبّاغ، تحرّكها. تعمل لجنة الرقابة تحت مظلّة «مساعدة المصارف حتى تُستعاد الثقة بها»، والتسويق لأنّه «لم تُسجّل مخالفات تستدعي الإحالة إلى المجلس المركزي لمصرف لبنان، ليبتّ بإحالتها إلى الهيئة المصرفية العليا أم لا».
ما تقدّم هو قرار غير مُعلن بعدم مُعاقبة أي مصرف، أو إخراجه من السوق. والمسؤولية لا تُلقى على لجنة الرقابة فقط، فهذه بالأساس سياسة مصرف لبنان، الذي قرّر «ضبّ» ملفّ إعادة هيكلة المصارف إلى «المرحلة المقبلة»، أي بعد تَشكيل حكومة ووضع خطّة اقتصادية مُتكاملة تكون المصارف جُزءاً منها. التعطيل السياسي مفتاح لعرقلة البتّ بمواضيع عدّة، ولكنّ مصرف لبنان يتّخذه ذريعة حتى يُبرّر «بطالته»... واستمرار «الجريمة» بترك المصارف تعمل بهذه الطريقة، المُستنزفة لما تبقّى من مُجتمع واقتصاد. في آخر تقرير وضعته وكالة «ستاندرد أند بورز» للتصنيف الائتماني، ورد أنّ «الفشل في إعادة هيكلة النظام المالي قد يترك لبنان مع مصارف غير مؤهّلة لدعم التعافي الاقتصادي».
مؤشرات عديدة تُصدّق تحليل «ستاندر أند بوزر»: موافقة مصارف على إعطاء زبائن قروضاً بالدولار الوهمي لتسديد قروض سابقة، قبول ودائع بالدولار الطازج فقط يتم تجميدها من دون إعادة توظيفها في الاقتصاد على شكل استثمارات، خسارة الرساميل ورفض تعويضها، رفض التداول بالشيكات، رفض فتح حسابات جديدة بالليرة، ولا سيما حسابات التوطين... يقول مدير تنفيذي في أحد المصارف إنّ العمل الإداري «مُستمر خاصة في الأقسام القانونية، الصيرفة، والخزانة». أما العلاقة المباشرة مع الزبائن «فقد انخفضت إلى حدودها الدنيا». اهتمام المصارف مُنصبّ على «استمالة المنظمات والمؤسسات الدولية لفتح حسابات بالدولار» الطازج.
في الدراسة التي أعدّتها «ستاندرد أند بورز»، تُخبر عن تراجع حصّة القطاع المصرفي في قبرص من الناتج المحلي الإجمالي من 7.5% عام 2009 إلى 3.5% عام 2013، بعد إعادة الهيكلة. أما في لبنان، ورغم وجود 47 مصرفاً تجارياً «في خدمة 7 ملايين شخص فقط، مع ملاحظتنا أنّ أعداد المودعين غير المقيمين أكبر، لم نشهد بعد أيّ دمج لمصارف أو إغلاق بعضها». نصيحة الوكالة الأجنبية أنّه يجب إعادة هيكلة المصارف، وكلفة العملية ستُراوح بين 23 مليار دولار و102 مليار دولار»، قد تُطيح بحقوق ملكية بعض المصارف.
«يجب أن يكون الهدف تطوير النموذج المصرفي اللبناني، من نموذج المصرف التجاري لتجميع الودائع، إلى نموذج المصرف الإجمالي». كَتب الوزير السابق والاقتصادي جورج قرم هذه «النصيحة» في دراسة أعدّها سنة 1995، بناءً على طلب جمعية مصارف لبنان. شدّد قرم على كسر وظيفة المصارف كقالب بدائي يتم تجميد أموال الناس فيها، داعياً إلى الانتقال صوب «تحديث القنوات الاستثمارية والتمويلية»، كجزء من مُخطّط إصلاح القطاع المصرفي اللبناني. 26 سنة مرّت، استغلّت المصارف فيها كلّ فرصة لمعاكسة دراسة قرم، وعَزل عملها عن الاقتصاد المحلّي من خلال عدم لعب أي دور إنتاجي/استثماري جدّي فيه، حتّى وصلت - بعد تبديد وسوء التصرّف بأموال المودعين - إلى مرحلة تحوّلت فيها إلى مُجرّد «شبّاك دفع» أول الشهر، مُتوقّفةً عن توفير الخدمات «التقليدية» التي يُفترض أن يقوم بها أي مصرف. وبعد أكثر من سنة ونصف سنة من حصول الانهيار، يُصرّ مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف على اعتماد سياسة «الترقيع»، وعدم معاقبة المخالفين، كما لو أنّ التستّر من دون معالجة الخلل سيُعيد «الثقة» بقطاع مُفلس.