مزيج من المال والسياسات اليمينيّة دفَع اليونان، التي تعاني من أزمة اقتصادية مستمرّة، إلى أحضان التحالف الخليجي - الإسرائيلي، القديم سرّاً، والجديد علناً، علّ الأرباح التي ستجنيها من هذا التحالف تُخفّف عنها وقع الأزمة. لكن هل تُوازي حفنة الدراهم التي ستكسبها تلك الأمّة العريقة التي صدّرت الحضارة إلى كلّ العالم، ما ستخسره من خلال استعداء شعوب هذه المنطقة التي كانت دوماً صديقة لها، وخاصة في اليمن وفلسطين، حيث يرتكب الاحتلالان السعودي – الإماراتي، والإسرائيلي، أعمال قتل يومية بحق الأبرياء؟ لم تتورّط اليونان، طوال العقود الماضية، في الصراع العربي - الإسرائيلي. كانت في السابق دوماً، بشعبها وحكومتها، نصيراً للقضية الفلسطينية، وخاصة بيسارها الذي طالما اعتَبر هذه القضية قضيّته. جزء من هذا الماضي تُجسّده حكاية الفنان العالمي، ميكيس ثيودوراكيس، مؤلّف موسيقى فيلم «زوربا اليوناني»، حين تأزّر بالكوفية أمام اجتماع لـ«المجلس الوطني الفلسطيني» في بيروت في بداية عام 1982، ليعزف نشيداً كان قد لحّنه، بطلب من ياسر عرفات. وعلى رغم أنه زار إسرائيل قبل ذلك، إلا أنه وصفها بأنها أساس الشرور في العالم. التاريخ يُسجّل، أيضاً، تضامن اليونان، تحت قيادة الاشتراكي أندرياس باباندريو، مع لبنان والفلسطينيين خلال حصار بيروت صيف 1982، بتظاهرات كبرى، وحملات شعبية لإغاثة المحاصرين، ودور رسمي تَمثّل في إرسال سفن تجارية لإخراج مقاتلي «منظّمة التحرير» من بيروت. حينها، كان حزب «الباسوك»، الواصل إلى السلطة قبل عام، ثورياً بكلّ ما للكلمة من معنى. ولم يكن راضياً لا عن عضوية اليونان في «الناتو»، ولا في السوق الأوروبية المشتركة، لكن باباندريو وجد أنه لا يمكن لحزبه الاستمرار في الحكم، إلا بتصالح نسبي مع واقع البلاد كجزء من هاتين المنظومتين.
ما لم تُغيّره تلك العقود الطويلة في السياسة اليونانية، قلَبَه رأساً على عقب اكتشاف الغاز في شرق المتوسّط، والذي جاء على خلفية الأزمة الاقتصادية التي تعيشها اليونان منذ عام 2008، ليلقي بهذه الدولة في قلب النزاعات الشرق أوسطية الدامية، ويعيد تموضعها في الحلف المناهض لمحور المقاومة من جهة، ولتركيا من جهة أخرى. وعلى رغم محاولة أثينا نفي صفة الأحلاف عن علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية المتنامية بسرعة مع إسرائيل والإمارات والسعودية، إلا أنه صار واضحاً أن حكومة كيرياكوس ميتسوتاكيس اليمينية انخرطت في ما يمكن اعتباره محاولة لاستغلال الموقع الجيوساسي لليونان لأهداف اقتصادية، على رغم أنها تعرف أن هذا ينقلها من موقع الصديق، إلى موقع الخصم لشعوب لم تكن على عداوة معها في السابق. كذلك، من شأن استفزاز أثينا، أنقرة، أن يعيد نبش العداء التاريخي بين العاصمتين، حتى وإن كان محكوماً إلى الآن بسقف عضويّتهما في حلف «الناتو». لقد كانت الأوضاع مستقرّة بين البلدَين الجارَين منذ أن جرى عزل القضية القبرصية العصيّة على الحل، لكنهما واقعياً يختلفان على كلّ شي، ولا يتّفقان حتى على القهوة المغليّة بالركوة التي يسمّيها الأتراك تركية، واليونانيون يونانية.
تسعى أثينا من خلال تغيير تموضعها لتحقيق مكاسب اقتصادية من دول الخليج


في أسبوع واحد، وقّعت اليونان صفقة عسكرية مع السعودية، تلاها لقاء لوزير خارجيتها نيكوس ديندياس بمحمد بن سلمان، ثمّ عَقدت صفقة أخرى مع إسرائيل، وشاركت في اجتماع رباعي في بافوس ضمّ المستشار أنور قرقاش من الإمارات، ووزيرَي خارجية العدو غابي أشكنازي، وقبرص، نيكوس كريستودوليديس، كما استضافت مناورات «إينوخوس» الجوّية بمشاركة طائرات حربية إماراتية وإسرائيلية. وبالعودة قليلاً إلى الوراء، وقّعت الإمارات واليونان، في تشرين الثاني الماضي، اتفاق شراكة استراتيجية تتضمّن تعاوناً نفطياً ودفاعياً، ثمّ في شباط الفائت، اجتمع مسؤولون من السعودية والإمارات والبحرين ومصر واليونان وقبرص في أثينا، لإظهار الدعم لليونان في الخلاف مع تركيا على غاز شرق المتوسط. وأصبحت اليونان شريكاً في العدوان السعودي - الإماراتي على الشعب اليمني، من خلال صفقة نشر صواريخ «الباتريوت» مع 130 عسكرياً يونانياً لتشغيلها على أراضي السعودية، لحماية منشآت النفط السعودية من صواريخ «أنصار الله» ومسيّراتهم. وإذا كانت الذريعة اليونانية أن هذه المنظومة دفاعية، فإن هدفها حرمان اليمنيين من أبسط حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم، في وجه العدوان والحصار. فدخول هذه المنظومة الصاروخية الذي يشمل تطوير نظام «الباتريوت» من «باك 1» إلى «باك 2»، جاء للتعويض عن النقص، بعد قرار الإدارة الأميركية السابقة في أيار 2020، سحب جزء من بطّاريات «الباتريوت» التي كانت تنشرها في المملكة، وكذلك بعد قرار جو بايدن الحدّ من مبيعات السلاح للسعودية، بسبب حرب اليمن.
صارت اليونان أيضاً ظهيراً لإسرائيل ضدّ الفلسطينيين، بعد أن وقّعت صفقة هي الأضخم لها مع الدولة العبرية، لبناء وتشغيل قاعدة لتدريب الطيّارين اليونانيين على مدى 22 عاماً. كان يمكن لأثينا ،كذلك، أن تكون متورّطة في عدوان على إيران لو غامرت فيه واشنطن، حينما أعلنت استعدادها للسماح للولايات المتحدة باستخدام قواعدها الجوية لشنّ مثل هذا الهجوم، لكن طهران سارعت إلى تحذير اليونان من أنها ستردّ على الأراضي اليونانية، إذا انطلق منها أيّ عدوان أميركي. يُضاف إلى ما تقدّم أن اليونان متواطئة مع إسرائيل في الاعتداء على حقوق لبنان في نفطه وغازه، من خلال توقيع اتفاقية «شرق المتوسّط» التي ضمّتهما إلى قبرص وإيطاليا ومصر، لمدّ أنبوب غاز تحت البحر بطول 1900 كيلومتر، يوصل الغاز إلى أوروبا، قبل التوصّل إلى اتفاق لترسيم الحدود بين لبنان والعدو. لكن لحسن الحظّ، يبدو أن هذا المشروع يواجه مشكلة تمويلية بفعل خوف المموّلين المحتملين من المغامرة قبل الترسيم، ما قد يؤدّي في مرحلة ما إلى استهداف منشآته من قِبَل المقاومة.
تسعى أثينا، من خلال تغيير تموضعها، إلى تحقيق مكاسب اقتصادية من دول الخليج. فعدا عن الأرباح المالية المباشرة لهذه التحالفات، انطلقت دعوات في السعودية والإمارات على وسائل التواصل الاجتماعي، لاستبدال السياحة إلى تركيا، بسياحة إلى اليونان، في حملات منظّمة لإسالة لعاب اليونانيين على الدراهم والريالات. تلك هي فلسفة حكومة اليمين للتعامل مع الأزمة الاقتصادية التي هدّدت في مرحلة ما وجود اليونان في منطقة اليورو، لولا أن تأثير خروج هذا البلد كان أكبر من تتحمّله الأخيرة، ما اضطر الدول الأغنى إلى مدّ خطوط الائتمان إلى أثينا لانتشالها. لكن التموضع اليوناني الجديد يأتي متأخّراً كثيراً. فحتى الدول الاستعمارية، واليونان كانت منها قديماً، تكتشف أن الخسائر الناجمة عن السمعة السيئة أكبر من أرباح مبيعات الأسلحة التي تؤدّي إلى كوارث إنسانية، كما هو حال العدوان على اليمن. هذا ما توصّلت إليه واشنطن حين قرّرت الحدّ من بيع الأسلحة إلى السعودية، وها هي أثينا ترث واحدة من صفقات أميركا الملغاة، وسترث معها سوء السمعة.





اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا