القاهرة | على أنغام أغنية أم كلثوم «ليلة حبّ»، ترقص «فتاة المصنع» هيام (ياسمين رئيس) في فرح المهندس صلاح (هاني عادل). في تلك العبارة السابقة، لم يظهر اسم سعاد حسني إطلاقاً. لكن الرقصة والمشهد إحالة قوية واضحة إلى مشهد أغنية السندريلا الشهيرة «بانوا بانوا» من فيلم «شفيقة ومتولي» (علي بدرخان 1978). تكاد نظرات هيام إلى صلاح تنطق بكلمات صلاح جاهين في أغنية السندريلا «جربنا الحلو المتعايق (...) فاكرينه شريف..
أتاريه مش كده على طول الخط/ الطبع الردي من جواه نط/ خلاص بقى مهما اتشال وانحط/ مافيش دمعة حزن عشانه». وبالفعل، تؤدي هيام رقصتها بقوة، وبعيون لامعة وبلا «دمعة حزن عشان» المهندس صلاح. لقد انطلقت، تماماً كالسندريلا التي يهدي محمد خان فيلمه إليها، متحديةً غدر الرجل/ المجتمع وقيم الذكورة السائدة. من أجل هذا، من أجل تلك القدرة على الإحالة بين مشهد سينمائي وآخر أقدم بما يقارب 4 عقود، بلا تصريح بل باستخدام لغة السينما وحدها (الصورة والطلّة والإضاءة وعيون الممثلة وطريقة رقصها)... لهذه القدرة والأسباب، وهذه الرغبة ــ والإمكانية ــ في صنع الألعاب السينمائية، تبقى لمحمد خان (1942)، أهميته الكبرى في الساحة السينمائية المصرية. وتبقى أفلامه الأخيرة المتباعدة التي تعاني باستمرار من عثرات الإنتاج، إضافةً إلى السينما. حتى لو اختُلف حول بعضها، يبقى الخلاف النقدي في سياق السينما النوعية التي يقدمها خان. و«النوعية» هنا لا يقصد بها سينما النخبة، بل للأسف، فإنّ مجرد تقديم شريط يعتمد لغة السينما وأدواتها وأحلامها، صار يعدّ ــ في السوق المصرية ـ عملاً نوعياً. ومن إشارات «لغة السينما» في «فتاة المصنع»، ارتداء هيام دائماً الإيشارب «البمبي» في إشارة أخرى إلى السندريلا التي ملأ صوتها ــ المنقّى من الموسيقى ــ مشاهد الفيلم معلّقاً على الأحداث، مبتهجاً تارة ومرتبكاً طوراً، عبر كلمات أغنياتها من «بمبي» إلى «صغيرة على الحب» إلى «شيكا بيكا»... مقاطع صوتية رافقت هيام وهي تلتقي المهندس الجديد في المصنع، بعد رحيل القديم (خيري بشارة). أما الجديد (هاني عادل) فهو « 5 إدوار» في إشارة إلى طول القامة، والهيبة التي ملأت عيون وقلب فتاة المصنع التي «تمت واحد وعشرين سنة»، فاشتعلت في قلبها نار «لا بتهدي ولا عايزة تطفيها». بين الفتاة والمهندس فارق طبقي طفيف، لكنه يتضخم كالعادة في الطبقة الوسطى المرعوبة، وهي لعبة أثيرة عند جيل محمد خان، لعبها عاطف الطيب قبلاً في «الحب فوق هضبة الهرم»، متمثلاً الفارق بين أسرتي موظفين كبير وصغير. أما مع خان «المصنع»، فثمة خطوات غير بعيدة تفصل العاملة والمهندس الذي يسكن «المنيرة يعني مش المعادي أو المهندسين»، في إِشارة من خالتها (سلوى محمد علي) إلى عدم ثراء المهندس «المتعايق»، ثم انتفاء المبرر لتعاليه على مَن هم في ظروف «فتاة المصنع». لكن كالعادة مع خان، وهنا مع سيناريو وسام سليمان، ننتهي مع مزيج من المأساة والانعتاق، بعد فضيحة أخلاقية كاذبة. وبعد قبلة من المهندس تبني عليها الفتاة أحلامها، إذا به يكشف عن نذل تام، وقاس، وتكشف هي ـ تحت ضغط الأهل وأقدام الجدة ــ عن قوة كانت مخبأة في هشاشتها البريئة وأحلامها «البمبي».
استُقبل «فتاة المصنع» بترحيب نقدي يليق به وبصاحبه الذي نال أخيراً، وكخبر صحيح هذه المرة، الجنسية المصرية، بعدما كان الأمر قد تحول إلى نكتة سخيفة، تمثلت في قرارات تصدر إعلامياً بلا أثر رسمي.
هذه المرة زاره مستشار الرئيس وسلمه الوثائق في بيته في المعادي، وصار خان مصرياً رسمياً، هو الذي صنعت أفلامه جزءاً أصيلاً من السيرة السينمائية والوجدان العام في هوليوود الشرق. حتى أنّ القول بأنّ أربعة من أفلامه اختيرت ضمن القائمة الأولى لأهم 100 فيلم مصري «خرج ولم يعد» (1984)، «زوجة رجل مهم» (1987)، و«أحلام هند وكاميليا» (1988)، «سوبر ماركت» (1990)، هو اختصار لا يفي خان حقه. بتأمل الأفلام الأربعة المهمة، ينطلق السؤال: وأين فيلم «الحريف» (1983) ؟ وأين «موعد على العشاء» (1981)؟ و«طائر على الطريق» (1981)؟ بل أين باكورته المهمة «ضربة شمس» (1978)؟ اللافت هنا أنّ حقبة الثمانينيات التي لطالما وصفت بأنها فترة «سينما المقاولات» وعصر الفيديو، شهدت أهم أعمال خان وأبناء جيله من خيري بشارة إلى عاطف الطيب، بل حتى مروراً بالمجايلين الذين لا ينتمون إلى «المجموعة» نفسها، أمثال علي عبد الخالق في ثلاثيته الثمانينية الشهيرة «العار « و«الكيف» و«جري الوحوش». وأياً كانّ، فإن محمد خان، في عمره السبعيني، أحد القلائل جداً الذين بقوا ممن يحملون همّ وأحلام السينما صاحبة المعنى واللغة، والأهم، روحاً شابة، تجعله لا يصنع فيلماً ملوناً كـ «فتاة المصنع» فحسب، بل يتجرأ أيضاً، فيدفع إلى السينما بسندريلا جديدة.