في مناسبة «يوم الشعر العالمي» (21 مارس)، تحتفل «أكاديميّة المملكة المغربيّة» في الرباط اليوم بتجربة بنيس، انطلاقاً من كونه هو الذي وجّه رسالة إلى اليونيسكو، فتم الاعتراف بهذا اليوم منذ عام 1999. هذا إضافة إلى الدور التحديثي الذي لعبه بنيس في تاريخ الثقافة المغربيّة المعاصرة وعمله على دحض التصوّرات والآراء الموروثة عن الاستقلال، والتي ستجد صداها داخل مجلة «الثقافة الجديدة» (1974-1984) التي شكّلت مدرسة حقيقية لكل الكُتّاب والشعراء والنقاد والفنانين. عمل هؤلاء على الدفع بالمجلة إلى مقدّمة الثقافة المغربيّة من خلال مقالات فكرية وأدبيّة وحوارات كبيرة وترجمات لكبار المُفكّرين أمثال: عبدالله العروي وعبد الكبير الخطيبي وأدونيس وبرهان غليون وغيرهم. ورغم أنّ المجلة حاولت التنصّل من أيّ إيديولوجيا قد تُعيق مستقبلها وتجعل خطّها التحريري ينصاع إلى جهة ما، فإنّ القارئ يكتشف، أنّ البُعد اليساري الحداثي حاضر بقوّة في ثنايا المجلة. والسبب يعود إلى أمور تاريخيّة، شهدها المجتمع المغربي آنذاك، وتمثّلت في بروز تيار اليسار الجديد، الذي ينظر إلى الماركسية كفكر وليس كـ «دين» أو «معتقد». هذا الفهم المُغاير للماركسية لدى بنيس وهيئة التحرير، شكّل دافعاً قويّاً للمجلة. يقول المُفكّر عبد الإله بلقزيز في الكتاب الفني الضخم، الذي عملت الأكاديميّة المغربية على نشره في هذه المناسبة، مع أنطولولوجيا شعريّة، وانفردت «الأخبار» بأوّل نسخة منه: «الثقافة الجديدة ولدت من روح اليسار، لا من بدنه التنظيمي، فقد أعفتها طبيعة التكوين من أن تصاب بآفة التنزّل منه بمنزلة اللسان الناطق والذهول، من ثمة عن دور ثقافي مطلوب، والاعتياض عنه بدور مستعار تتحول فيه إلى ما يشبه جريدة في هيئة مجلة. بل هي تحاشت في أدائها، حتى أن تسلك الدرب الذي سلكته «أنفاس» قبلها، فتكون لليسار منبراً سياسياً يستنسخ من قبله، أو يتقفّى أثراً تركه الأول قبل الانقضاض عليه في خضم الموجة الهوجاء التي ضربت عمران اليسار الجديد». ظاهرياً لا نختلف مع ما ذهب إليه بلقزيز. رغم المنع الذي طاول المجلة، ما زالت حاضرة بين الجيل الجديد، لأنّها كانت سبّاقة في طرح العديد من الموضوعات الأدبيّة والقضايا الفكرية للنقاش داخل ثقافة مغربيّة، ترزح تحت جرح الاستعمار وعنف التقليد وسطوة السياسة. هكذا أخذ بنيس على عاتقه مسألة تحرير الثقافة المغربيّة انطلاقاً من المواد التي كانت تُنشر والترجمات الجديدة المُعتمدة على كبار المفكّرين الفرنسيين وغيرهم وترجمة أفكارهم ومناهجهم وتقريبها إلى واقع ثقافة يومية مُرتبكة. فهذا الأمر سيُشكّل متانة حقيقية للنقد الشعري، الذي لولا هذه الترجمات الأولى، لظلّ تابعاً للمشرق على مستوى الكتابة والتحليل والقراءات اليومية. إنّها بطريقة ما حرّرت الثقافة المغربيّة من جمودها وانغلاقها وتقوقعها على نفسها، مقتصرة على ثقافة تمجيدية هزيلة تمدح الأجداد ولا تنتقدهم أو حتى أن تُعرّي أوهامهم تجاه الثقافة والسياسة والاجتماع.
شعرياً ينتمي بنيس إلى الجيل الثاني من المشهد الشعري المغربي المعاصر، إلى جانب كل من عبدالله راجع ومحمد بنطلحة ومحمد الأشعري وعبدالله زريقة. جيل أثّرت فيه السياسة، بحكم ما كان ينغل به الواقع آنذاك من شروخ وتصدّعات، فجاءت نصوصهم الأولى مُتدثّرة بالإيديولوجيا وأكثر ارتباطاً بالواقع اليومي. بدت اللغة والصور الشعرية كأنّها عناصر باذخة مُؤجّلة، يرون أنّها بعيدة عن برنامجهم الشعري، أمام فتنة الواقع وما يحبل به من ألم وعنف. مع ذلك، ظلّت تحبل بمفهوم التجريب، الذي جعلته في مقدّمة برنامجها الشعري، إذ يُسجّل القارئ تنوّعاً هائلاً داخل نصوص الشعراء وتطلعهم الدائم نحو التحرر من رواسب البناء القديم أو حتى من مفهوم الخطاب التقليدي الستيني في بعض النماذج، التي سيّجت القصيدة وجعلتها في خدمة الحركة الوطنية وأوهام الاستقلال والاعتزاز بالذات.
محمد بنيس لم يكُن يُؤمن بهذه المُعتقدات. ظلّ حريصاً على الدفع بالقصيدة إلى حدودها القصوى المرادفة للحلم والمستحيل. ومع أنّ هذا الأمر، بقي استثنائياً بالنظر إلى تجارب أخرى، طغى فيها البُعد السياسي على حساب الجمالي، الذي سيكون أوّل شرط شعري لدى جيل الثمانينيات مع حرصه على جعل النص الشعري في قلب المعرفة الكونية والمثاقفة والاشتغال والالتفات إلى التراث العربي الإسلامي على مختلف أشكاله ومشاربه. هذه القفزة النوعية في الشعر المغربي، جاءت بسبب تشجيع مجلة «الثقافة الجديدة» للترجمات وحرصها على تقريب الشعر العالمي إلى المغاربة. وهذا ما حدث منذ أواخر السبعينيات، حيث ستتغيّر بنية القصيدة السبعينية من البعد الإيديولوجي إلى الآخر المعرفي أو ما سمّاه الشاعر محمود درويش بـ «الشرط الجمالي». هكذا، انتقلت الذائقة الشعورية لهؤلاء الشعراء المغاربة من النقد والصراخ إلى الإنصات إلى الذات وجرحها ومشاغلها خلال الثمانينيات، حتى بدا هذا البعد الجمالي كأنّه موضة شعريّة جديدة يتغنّى الكل به. لكن هذا الرجوع في نظري، لم يكُن جمالياً وإنّما كان سياسياً محضاً. ففي الوقت الذي بدأت فيه سلسلة الاعتقالات التي طاولت الكثير من الجيل السبعيني، بدت المرحلة الثمانينية كأنّها مجرّد هدنة بالنظر إلى السنوات السابقة والتقاط الأنفاس، قبل أن يعمل شعراء كثيرون ليس على طرق باب الذات، بقدر ما عملوا على إعادة صياغة ذواتهم المكلومة سياسياً وهم يرقبون سقوط اليسار وولادة حركات الإسلام السياسي، التي كانت الوسيلة الوحيدة للجهات الرسمية للقضاء على هذا المدّ اليساري الواسع داخل الجامعات والمجتمع المغربي ككلّ. وقد ارتبط ذلك في حياة محمد بنيس بإغلاق مجلة «الثقافة الجديدة» سنة 1984 حين أصدر وزير الداخلية إدريس البصري قراراً بتوقيفها، فتمّت مصادرة عددها الأخير. وسيأتي الشاعر محمود درويش خصيصاً إلى مدينة المحمدية لأخذ العدد ونشره في مجلة «الكرمل». حدث بقي استثنائياً في حياة «الثقافة الجديدة».
مجلته «الثقافة الجديدة» شكّلت مدرسة حقيقية لكل الكُتّاب والشعراء والنقاد والفنانين
يفتخر محمد بنيس دوماً، بأنّه عاش في زمن الكبار وبما تعلّم منهم في الشعر والثقافة والحياة. لكنّه لا يقف خلفهم تابعاً ومُسوّغاً لأفكارهم وأطروحاتهم، بقدر ما يعمل ليكون نداً وصديقاً لهم في ليل القصيدة والسؤال، عاملاً على توسيع اشتغالاته بين الشعر والنقد والترجمة، إضافة إلى سلسلة من الكتابات «العاشقة» التي تحفر في الثقافة العربيّة المعاصرة، كما هو الشأن في «حداثة السؤال» و«الحداثة المعطوبة» و«كتابة المحو» التي يتجاوز فيها مفاهيم الرصد والمُعاينة لمصلحة التحليل والنقد والتأريخ، ما يجعل أسلوبها يتجاوز نمط الكتابة العاشقة، صوب أخرى تقوم على حفر في بنية الثقافة العربيّة ومكبوتها. إنّه يُغيّر بطريقة خفيّة مفهوم «المركز» بـ «الهامش». وهذا الأمر، يستدعي معه استبدال طريقة النظر وتوسيع الرؤية وارتفاع منسوب التحليل، مُستلهماً المناهج المعاصرة في تشريح واقع هذه الثقافة، بما تعيشه من تأخّر تاريخي، يرصده بنيس. لكنّه لا يكتفي بالرصد فقط، وإنّما يتوغّل أكثر داخل سراديبها والإقامة في تخومها اللامُفكّر فيها. فهو يمارس نقداً مزدوجاً لهذه الثقافة، تارة ينتقدها ويُعرّي أسّسها الإيبستمولوجية، التي قامت عليها وأسهمت في ظهور بعض ظواهرها الأدبيّة، وطوراً، يُبرز قوّتها وإمكاناتها وما تتوافر عليه من قيمة معرفية، بالنظر إلى تحوّلاتنا المعاصرة، مُقيماً درعاً حصينةً وقاطرة معرفية بين الثقافتين الغربية والعربيّة.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا