تشهد إسرائيل، اليوم، للمرّة الرابعة خلال عامين، انتخابات نيابية يصعُب التنبّؤ بنتيجتها النهائية، وما إن كانت ستُبنى عليها حكومة ما أو أنها ستفتح الباب على انتخابات خامسة، تعيد بدورها إنتاج المشهد نفسه بين المتنافسين، أي بين مَن هم مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ومَن هم ضدّه. مع ذلك، يمكن، بمعقولية مرتفعة، الإحاطة بالمشهد الإسرائيلي المقبل تأسيساً على الحصائل المُتوقّعة للعملية الانتخابية، وإن كانت النتيجة النهائية ستظلّ مائعة، بالنظر إلى أن المتنافسين، في أعمّهم الأغلب، لا يتسابقون وفقاً لبرنامج سياسي أو وعود انتخابية ترنو إلى التغيير، كما هي العادة في أيّ عملية انتخابية في دولة سويّة، بل إن الانتخابات الرابعة، وربّما أيضاً الخامسة التي قد تضطر إسرائيل إلى خوضها في وقت لاحق، تتركّز حول أمر واحد، وهو شخص نتنياهو، الذي تسمّر في منصبه طويلاً جداً على رغم اتّهامه بالفساد، وكثرة المساعي للإطاحة به. أغلب التقديرات تمنح نتنياهو حظوظاً تفوق حظوظ منافِسيه، على كثرتهم. لكن هل تتوافق النتيجة مع التقديرات؟ جملة عوامل ومؤشّرات تُرجّح فوز نتنياهو، سواء بالتكليف أو لاحقاً بالتأليف، وإن كانت هذه الانتخابات تحمل الشيء ونقيضه، وقد تتّجه إلى مسارات ربّما ستظلّ غير ملحوظة حتى في يوم التصويت. وتجرى الانتخابات في إسرائيل وفق نظام التمثيل النسبي، المرتكز على قوائم مغلقة ضمن دائرة انتخابية واحدة، تتنافس في ما بينها على 120 مقعداً في "الكنيست"، حيث الأغلبية المطلقة اللازمة لنيل أيّ ائتلاف حكومي الثقة هي النصف زائداً واحداً (61 مقعداً). وقبل منْح الثقة، تمرّ عملية تشكيل السلطة التنفيذية عبر إجراءات أصولية، تبدأ من تكليف عضو "كنيست" يرتئي الرئيس الإسرائيلي أنه قادر على تشكيل الحكومة، على رغم أن العادة المتّبعة عرفاً هي اختيار رئيس القائمة التي فازت بأكبر عدد من المقاعد. وبعد التكليف، يبدأ الرئيس المُكلَّف، ضمن مدّة زمنية محدّدة قابلة للتجديد مرّة واحدة، إجراء مشاورات مع الكتل والأحزاب، التي كلّما كبر عددها في معسكر الرئيس المُكلَّف كان لدى الأخير هامش مناورة أمام ما يطلبه المرشّحون للائتلاف معه، في حين أنه سيكون عرضةً للابتزاز السياسي في حال كانت القاعدة التي يستند إليها في "الكنيست" مُقلَّصة إلى 61 عضواً أو يزيد قليلاً.
في البرامج، كان الخلاف في السابق بين الكتل الإسرائيلية، المتوزّعة على يمين ويسار وأحزاب دينية، يتعلّق بالتسوية السياسية مع الجانب الفلسطيني ــــ العربي، أي بين طروحات يسارية مرنة وأخرى يمينية متطرّفة. أمّا الآن، مع موت التسوية فعلياً، وتراكُض عدد من الأنظمة العربية إلى التطبيع، وتراخي بل وتبعية أصحاب التسوية من الفلسطينيين، باتت العملية السياسية شبه منتفية في البرامج الانتخابية للمتنافِسين، سواء من اليمين أو اليسار، إن صحّت تسمية "يسار" إلى ما تَبقّى من هذا التوجُّه. هكذا، أضحى التنافُس مبنيّاً على اتجاهات مطلبية مختلفة جداً، وشخصية جداً، من دون أيّ علاقة فعلية بالاصطفاف بين الأحزاب. وما الانتخابات الرابعة على التوالي التي تخاض على أساس بقاء نتنياهو من عدمه، إلّا دليل على ذلك.
يتبدّل، إذاً، تموضع الأحزاب المختلفة، بين حزب يميني لا يمانع في الائتلاف مع آخر يساري يعارض كلّ طروحاته وأفكاره وحراكه السياسي الداخلي، وبين حزب يساري لم يعد يعير الشوفينية والتطرُّف اعتباراً كبيراً ليأتلف مع آخر يميني؛ فالمهمّ لدى هذه الأحزاب هو الموقف المناوئ لنتنياهو، وهو ما ينسحب أيضاً على الوسط. لكن، تشذّ عن تلك القاعدة الأحزاب الدينية "الحريدية" التي أعلنت أنها تقف إلى جانب نتنياهو ولن تتخلّى عنه، لتُمثّل، إلى جانب حزب "الليكود"، الكتلة الصلبة لرئيس الوزراء، مقابل كلّ الآخرين الذين يقفون معارضين له، على رغم أن تشرذم هؤلاء وتنافسهم على الزعامة يضعفانهم، ويقلّصان حظوظهم في نيل التكليف، ولاحقاً في التأليف الذي يبدو صعباً جدّاً بالنسبة إليهم، إن لم يكن متعذّراً.
في المقابل، يتمركز نتنياهو في منصبه رئيساً للحكومة، بغضّ النظر عمّا إن كان رئيساً بالأصالة أو بالوكالة أو رئيساً لحكومة مؤقتة، مستقيلة أو منزوعة الثقة، في مواجهة حراك انتخابي دائم. وهو في كلّ استحقاق انتخابي يسعى، وينجح إلى الآن، في أن يكون رئيساً للوزراء. وهذا هو الحدّ الأدنى الذي يريده، من دون أن يمانع بطبيعة الحال النجاح في التوصُّل إلى حكومة مستقرّة نسبياً، تضمن له البقاء السياسي واحتواء محاكمته جزائياً، من موقع يؤمّن له نوعاً من الحصانة القضائية والمعنوية التي لا يستطيع تأمينها في ما إذا كان خارج المنصب. وفقاً لاستطلاعات الرأي، التي تكاد تكون مستقرّة في الآونة الأخيرة وإن مع هوامش متغيّرة محدودة نسبياً، فإن لدى الكتلة الصلبة لنتنياهو، والتي تضمّ "الليكود" وحزبَي "شاس" و"يهودت هتوراة"، ما يزيد على خمسين مقعداً، فيما تشير التقديرات إلى أن حزب "يمينا" برئاسة نفتالي بينت، المتردّد في شأن الائتلاف مع نتنياهو، سيكون في نهاية المطاف جزءاً من ائتلاف من هذا النوع، بعد مسار مساومة على الثمن وعلى المقاعد الوزارية والمكتسبات، ما يرفع المحصّلة لدى نتنياهو، وفقاً لهذه الفرضية، إلى ستين مقعداً، تزيد أو تنقص مقعداً واحداً، إذ إن الاستطلاعات تعطي "يمينا" ما يصل إلى عشرة مقاعد أو أقلّ. وإلى جانب "يمينا"، لدى نتنياهو أيضاً، ضمن كتلته الصلبة، حزب يُمثّل أقصى التطرف، هو "الصهيونية الدينية" برئاسة بتسلئيل سموتريتش، الذي يتأرجح بين السقوط والدخول إلى "الكنيست"، إلا أن ما يهمّ من ناحية هذا التكتُّل، أنه إذا نجَح في تخطّي العتبة الانتخابية، فسيكون فائزاً بحدّ أدنى هو أربعة مقاعد، من شأنها تعزيز موقف رئيس الوزراء وقدرته على مساومة الآخرين، وفي مقدّمتهم "يمينا".
ثمّة ترجيح كبير لأن يفوز «الليكود» وشركاؤه بحصيلة معتبرة تدفع رئيس الدولة إلى تكليف نتنياهو


على المقلب المضادّ، خلطة من التناقضات الشخصية والبرامجية، بين يمين متطرّف وعلمانيين ضدّ متديّنين متطرّفين، ووسط باختلاف تسمياته، وكذلك ما تبقّى من يسار، ومن فلسطينيي 1948. مِن بين هؤلاء من يتحدّث بشيء وينوي فعل شيء آخر، كما هي حال نفتالي بينت، الذي يسعى ضمن تركيبة صعبة التحقُّق إلى الوصول إلى رئاسة الحكومة، لكنه في الواقع يعمل فقط على رفع ثمن انضمامه، الذي يكاد يكون حتمياً، إلى حكومة برئاسة نتنياهو. أمّا الآخرون، فلا يريدون أن يوصموا بـ"عار" الاستعانة بفلسطينيّي 48 عبر الائتلاف مع أو الاستناد إلى "القائمة العربية المشتركة" التي يُقدّر أن تحوز ما بين 8 و10 مقاعد في هذه الانتخابات. والرافضون للجلوس إلى جانب "المشتركة"، هم: بينت، ورئيس حزب "أمل جديد" المنشقّ عن "الليكود" جدعون ساعر، وآخرون. ضمن المعسكر نفسه، يتقدّم حزب "يش عتيد" برئاسة يائير لابيد، الذي يطمح إلى رئاسة الحكومة وجرّ المتناقضين خلفه، وإن كان يدرك صعوبة جذبهم إليه. وبين هذا الطرف وذاك، يسعى قسم ثالث إلى افتراض ما لا يُفترض، كما هي حال جدعون ساعر، الذي يريد ضمّ الأحزاب الدينية إلى ائتلاف معارِض لنتنياهو، على رغم تصلُّب موقف هؤلاء برفض أيّ طرح ضدّ الأخير. أمّا حزب "إسرائيل بيتنا" برئاسة أفيغدور ليبرمان، فلا يزال يرفض الجلوس إلى جانب المتديّنين "الحريديم"، وكذلك الفلسطينيين من "القائمة المشتركة". والخلاصة أن اختلافات الكتلة المعارِضة لنتنياهو كبيرة جداً، ومن شأنها تحييد الجامع المشترك بينها، وهو إسقاط الرجل.
بالنتيجة، ثمّة ترجيح كبير لأن يفوز "الليكود" وشركاؤه بحصيلة معتبرة، تدفع رئيس الدولة إلى تكليف نتنياهو، الذي سيسعى بدوره إلى ائتلاف واسع جداً، وإن لم يستطع فأغلبية مطلقة، وهي الاحتمال الأكبر. لكن إذا استعصى عليه ذلك أيضاً لسبب أو لآخر، فسيسعى إلى إفشال مَن سيليه في التكليف، والذهاب من جديد إلى انتخابات مبكرة هي الخامسة، على أن يكون هو رئيس الحكومة الانتقالية إلى حين إجرائها، في نتيجة جيّدة نسبياً لنتنياهو، قياساً إلى التحدّيات الداخلية وتعاظُمها في وجهه.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا