حدّدت وثيقة الدليل الاستراتيجي الموقّت للأمن القومي، «الدبلوماسية»، ملاذاً أوّل لإدارة علاقات الولايات المتحدة مع الخارج، في ظلّ الرئيس الأميركي جو بايدن. ذلك، على أيّ حال، لا ينطبق بالضرورة على المنافستَين الاستراتيجيتَين، الصين وروسيا، اللتين تؤرّقان الإدارة الجديدة المأخوذة كلّها بهاجس استعادة مكانة أميركا ودورها في العالم. ومَن يُكرِّر تلك الفكرة، وهي موجودة في صلب عقيدته الرئاسية، ليس إلّا بايدن الذي قرّر سريعاً مغادرة مربّع الدبلوماسية ولياقاتها، للانقضاض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يتحمّل أيضاً مسؤولية خسارة هيلاري كلينتون. قرارٌ تزامَن مع إطلاق الموسم الجديد من «المؤامرة الروسية» للتأثير على الانتخابات الرئاسية بهدف تعويم الرئيس السابق دونالد ترامب، كما جاء في تقييم استخباري رُفعت عنه السرية، أوّل من أمس.كثيراً ما حضرت روسيا في خطابات بايدن، بوصفها منافساً استراتيجياً ينبغي احتواؤه، وهو، بطبيعة الحال، تَوجُّه تتبنّاه المؤسسة العسكرية الأميركية منذ أيّام الحرب الباردة. لهذا، فإن العلاقات التي كانت مضبوطةً نسبياً أيّام الإدارة السابقة، باتت تنحو إلى مسار تصادمي، عبّرت عنه خصوصاً تصريحات الرئيس الأميركي، يوم أمس، والتي جاءت في أعقاب إماطة اللثام عن تقييم استخباري يتّهم موسكو أولاً، وبدرجة أقلّ طهران، بالتدخُّل في الانتخابات الأخيرة. والتقييم الصادر عن مكتب مدير الاستخبارات الوطنية يدّعي أن الحكومة الروسية حاولت «بثّ مزاعم مضلّلة، أو لا أساس لها»، خلال الحملة الدعائية لانتخابات 2020 ضدّ المرشَّح آنذاك، جو بايدن، عبر حلفاء للرئيس السابق دونالد ترامب وإدارته. لكنه، في المقابل، لم يَجد أيّ دليل على أن جهات أجنبية تلاعبت بالأصوات أو عرقلت بأيّ طريقة أخرى عملية التصويت. غير أن التقييم تتبَّع «مجموعة أوسع» من الدول الأجنبية التي اتّخذت خطوات للتأثير على الانتخابات، مقارنة بالدورات الانتخابية السابقة. وبحسب التقرير، عمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التأثير في الانتخابات بهدف الإضرار بترشيح بايدن ودعم منافِسه ترامب، «لكن القراصنة الروس لم يبذلوا جهوداً حثيثة لاقتحام البنية التحتية الانتخابية، على عكس الانتخابات السابقة». ويزعم التقرير أنه بينما سعت روسيا إلى تعزيز حظوظ ترامب، أطلقت إيران «حملة خفيّة متعدّدة الجوانب» في محاولة لإضعافه، أَذِن بها المرشد الأعلى، علي خامنئي، فيما «نفّذتها الأجهزة العسكرية والاستخبارية الإيرانية، عبر استخدام الرسائل العلنية والسرية والعمليات السيبرانية». وإلى موسكو وطهران، يبيّن التقييم «تدخُّل حزب الله اللبناني وكوبا وفنزويلا»، والذين اتّخذوا «بعض الخطوات لمحاولة التأثير على الانتخابات التي كانت أصغر في نطاقها من جهود التأثير التي قامت بها الجهات الفاعلة الأخرى في هذه الدورة الانتخابية». وبالنسبة إلى «حزب الله»، يقول إن الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، «دعم الجهود الرامية إلى تقويض الرئيس السابق ترامب. ربّما رأى نصر الله أن هذه وسيلة منخفضة التكلفة للتخفيف من مخاطر الصراع الإقليمي، بينما يواجه لبنان أزمات سياسية ومالية وأزمات صحية عامة». كذلك، يخلص إلى أن الصين، التي طالما اتهمتها الولايات المتحدة بالتجسّس الإلكتروني، اختارت عدم «بذل جهود التدخل» قبل التصويت، بل حتّى إنها «سعت إلى الاستقرار في علاقتها مع الولايات المتحدة، ولم تنظر إلى نتيجة الانتخابات على أنها مفيدة بما يكفي لها للمخاطرة بردّ فعل سلبي» إذا تمّ كشف الأمر.
تقرير الاستخبارات هذا صدر بالتزامن مع تحقيق مشترك أجرته وزارتا الأمن الداخلي والعدل الأميركيتان توصّل إلى خلاصات مشابهة؛ إذ يفيد بأن «الحملات الروسية والإيرانية الواسعة التي تستهدف قطاعات البنية التحتية الحيوية المتعدّدة، أضرّت بأمن العديد من الشبكات التي أدارت بعض الإجراءات الانتخابية». لكنه يؤكّد أن محاولات التدخُّل المزعومة «لم تؤثّر مادياً على صحة بيانات الناخبين، والقدرة على التصويت، وفرز الأصوات ونشر نتائج الانتخابات في مواعيدها». ويضيف التقرير أن جهات روسية وإيرانية وصينية تابعة لحكومات هذه الدول «أثّرت بشكل مادي» على أمن شبكات على صلة بمنظمات سياسية أميركية ومرشّحين وحملات.
يزعم التقرير أن «حزب الله» اللبناني اتّخذ بعض الخطوات لمحاولة التأثير في الانتخابات الأميركية


إزاء ما تقدَّم، قرّر بايدن تصعيد نبرته ضدّ روسيا، واصفاً رئيسها بـ»القاتل»، ومحذّراً إياه من أنه «سيدفع ثمن» أعماله، ومن بينها التدخُّلات الجديدة في الانتخابات الأميركية. ولدى توجيه المذيع الشهير جورج ستيفانوبولوس في تلفزيون «إيه بي سي» الأميركي، أمس، سؤالاً مباشراً لبايدن إن كان يعتبر أن الرئيس الروسي «قاتل»، أجاب الرئيس الأميركي «نعم أعتقد ذلك... سترى الثمن الذي سيدفعه قريباً». وفي إشارة الى أوّل مكالمة بينهما، لفت إلى أنهما تحدّثا طويلاً، وأنه يعرفه جيّداً : «في مستهلّ الحديث، قلت له: أعرفك وتعرفني، وإذا توصّلت إلى استنتاج مفاده بأنك فعلت ذلك، فكن مستعدّاً» لتحمُّل العواقب، من دون أن يوضح إلى ما كان يشير تحديداً. وأكّد أنه يرغب في «العمل» مع الروس «عندما يكون ذلك في مصلحتنا المشتركة»، على غرار تمديد اتفاق نزع الأسلحة النووية «نيو ستارت» الذي تقرَّر بُعيد وصوله إلى سدّة الحكم. وفي أول ردّ فعل يصدر عن مسؤول روسي كبير إثر الحوار، كتب رئيس مجلس الدوما، فياتشيسلاف فولودين، عبر حسابه في تلغرام، «هذه هستيريا ناجمة عن العجز... بوتين رئيسنا، وأيّ هجوم عليه، هو هجوم على بلادنا». وفي ضوء التصعيد الأميركي، قرّرت موسكو استدعاء سفيرها في واشنطن، أناتولي أنطونوف، للتشاور، مشدّدة، في الوقت نفسه، على أن الخطوة تهدف إلى تجنُّب «تدهور لا رجعة فيه» في العلاقات مع واشنطن.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا