يوماً بعد آخر، تتبيّن صعوبة أن تتوافر لأحد مخيّلة مافيا الدواء في لبنان. في كل مرّة، ثمة ابتكار جديد لأصحاب المستودعات وشركات استيراد الدواء ومحتكريه، لا للتخفيف عن المستهلكين ــــ المرضى، وإنما لضمان أرباحهم التي يخافون خسارتها في ظل الأزمة الراهنة. لذلك، بدأ هؤلاء باكراً بتحصين أنفسهم، حتى قبل أن تبلغ الأزمة المالية ــــ الاقتصادية الذروة، عبر تقنين تسليم أصناف كثيرة من الأدوية للصيدليات وتخزينها أو إعادة تصديرها إلى الخارج.
(هيثم الموسوي)

اليوم، تتواصل «عروضات» شركات الأدوية، وآخر «إبداعاتها» الـ»basket»... وهذه «سلّة» ابتكرتها بعض الشركات تلزم فيها الصيدلي الذي يطلب دواء معيّناً بأن يشتري معه أصنافاً أخرى (paramedical) أو مستحضرات تجميل أو غيرها. إما «السلّة» كاملة أو لا دواء. هذه هي المعادلة الجديدة التي تحاول المافيا إرساءها، والتي دفعت بالصيادلة إلى رفع الصوت، بعدما باتت الأزمة «عامة»، إذ إن أربعاً من الشركات الكبرى بدأت، عملياً، محاولة فرض هذه «الاستراتيجية التسويقية». «الجمعية الإسلامية للصيدلة» دعت الصيادلة إلى «رفض سياسة بعض الشركات التي تقوم بربط أصناف دوائية بأخرى وتمتنع عن تسليم أي من الأصناف إلا من ضمن سلّة تضمّ أصنافاً قد لا يرغب الصيدلي في الحصول عليها». وحضّت «الزملاء على عدم الرضوخ ومقاطعة أصناف الشركات في حال أصرت على الاستمرار في فرض هذه السياسة التي تندرج تحت عنوان تجارة الأزمات لتحقيق المكاسب». فيما اعتبر رئيس «ندوة الصيادلة» في حزب الكتائب، الصيدلي جو سلوم، هذا التصرف «بمثابة إخبار ومخالفة صريحة للقانون وللأخلاق».
بحسب رئيس الجمعية الإسلامية للصيدلة، حمود الموسوي، «يجبر الصيادلة مقابل الحصول على بعض الأدوية على أن يبتاعوا أيضاً أصنافاً كالفيتامينات، المتممات، الكمامات، ومواد التجميل...». وفي الغالب «تُفرض كمية الأصناف في كل سلة». إحدى الشركات، مثلاً، تفرض على الصيادلة الذين يطلبون «قطرة العين api tobrason أخذ مرطب للعين معها»، على ما يؤكد أحد الصيادلة. وقس على ذلك: «علبة بانادول مع معجون أسنان. علبة منظم للضغط amlor مع علبتي ماسك»، يقول سلوم آسفاً لأن «هذه التصرفات تأتي في ظل الدعم الذي لا يزال قطاع الأدوية يتلقاه حتى هذه اللحظة»، ولا يجد ما يصف به هذا الأمر سوى أنه «ابتزاز واستغلال للصيادلة والمرضى فقط من أجل تحقيق الربح».
تبرّر الشركات سياساتها التسويقيّة بانهيار العملة، فيما القطاع لا يزال يحظى بالدعم


شركة «نيو أول فارما» (new all pharma) التي بدأت سلوك هذا الطريق برّرت هذه الخطوة، في بيان مطول رداً على بيانات الصيادلة، بأن «سياسة توزيع الأصناف موضوع التداول لا تهدف إلى ربط الأصناف وإلزام الصيدلي خلافاً لرغبته، بقدر ما هي استراتيجية تهدف إلى نشر تلك الأصناف المحدودة الكمية من خلال طلبيات لا تتجاوز خمس قطع لأكثر الأصناف طلباً وبطريقة عادلة وأفقية بين الصيدليات الكبيرة والصغيرة، بما يضمن تأمين الدواء وإن بكميات خجولة لأكبر شريحة ممكنة من الزملاء، وبالتالي المرضى». وإذ أبدت الشركة «تفهمها للظروف التي يعانيها الصيادلة»، تمنّت «على الزملاء تفهّم أزمة الشركات المهددة بالإقفال»، لأنه «ليس في استطاعة أي شركة تحمّل تغطية انهيار عملة بنسبة 600% في ظل غياب رؤية واضحة لأفق الدعم (...)».
إن كان ثمة ما يقال هنا، فهو اعتراف البيان بـ«الخوّة» التي تنعكس ارتداداتها على المرضى، لا الصيادلة وحدهم. والأهم هو أن السياسة التي بدأت هذه الشركات بتعميمها وكأنها أمر عابر، ليست كذلك، بدليل مخالفتها الصريحة والواضحة للمادة 88 من قانون إذن مزاولة المهنة، وهي تندرج تحت عنوان «الابتزاز والاحتكار» وهو أمر «منافٍ للأخلاق المهنية»، على ما يؤكد الموسوي. وتنصّ هذه المادة على أن كل «صاحب صيدلية أو مستودع أو مصنع أو مستورد أو وكيل يمتنع عن بيع الأدوية (...) يستهدف بالعقوبة»، التي تتراوح بين «غرامة مالية من ستة ملايين الى عشرين مليون ليرة لبنانية، والحبس من شهرين إلى ستة أشهر أو إحدى هاتين العقوبتين» (المادة 37).
سابقاً، لم تكن سياسة «الإلزام» شائعة، باستثناء بعض الحالات النادرة التي خبرها بعض الصيادلة مع إحدى الشركات التي تحتكر دواء «monurol» لعلاج التهاب المسالك البولية. إذ كان الصيادلة يضطرون إلى الرضوخ لطلبات الشركة بحكم الحاجة إلى الدواء، «إذ لم يكن هناك سوى هذه الشركة التي لديها هذه التركيبة في لبنان»، بحسب أحد الصيادلة. أما اليوم، فقد بات هذا «الشذوذ» نهجاً لدى عددٍ من الشركات، وغالباً ما يكون المبرّر واحداً: تأخّر المعاملات في مصرف لبنان.