من العُلا السعودية، كانت بشارة إصلاح ذات البين الخليجي بعد خصومةٍ طال أمدها، ولم تأتِ بأيّ مكسبٍ للدول المقاطِعة. لكن المصالحة الموعودة التي تمّمتها عصا جاريد كوشنر السحرية، لتضاف إلى سجلّ إنجازات إدارته في حقل التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي، لا تعدو كونها جزءاً في سياق الهجمة الأميركية على إيران، هذه المرّة عبر توحيد "البيت الخليجي" ضمن حلفٍ يُتوقَّع أن يقود المنطقة نحو مزيد من الأزمات، برعاية واشنطن. في هذه الأثناء، تجنح السعودية نحو التخفُّف من الأعباء التي تثقل كاهلها، في انتظار ما سيترتّب على سياسات الإدارة الجديدة في المنطقة، بينما تعتصم الإمارات، التي غاب وليّ عهدها، محمد بن زايد، عن القمة الخليجية، بالحرد، مبديةً تحفّظات ما فتئت تعبّر عنها إزاء مصالحة قطر.
عادت المياه الخليجية إلى مجاريها، لتَفتتح مرحلةً جديدة ستتبدّى ملامحها مع انتقال العلاقات بين دول مجلس التعاون مِن الخصومة التامّة إلى تعاونٍ لا يزال من المبكر معرفة أفقه. تعاونٌ سيظلِّل مرحلة تحوّلاتٍ متسارعة ما فتئت تشهدها المنطقة منذ أن قادت الإمارات، الصيف الماضي، قافلة التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي للوصول بها إلى محطّتها الأخيرة: السعودية. الخطوة «الحتميّة» هذه، كما يصفها عرّاب صفقات «السلام»، جاريد كوشنر، تحتاج إلى بعض الوقت لجباية أثمانها، وإن كانت قد ظهرت أولى بوادرها بلقاءٍ جمع وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في نيوم نهاية العام الماضي، بدفعٍ من إدارة دونالد ترامب التي أملت إحداثَ خرقٍ من هذا الوزن يفتح الباب واسعاً أمام تكتّل عربي في وجه إيران. وفي انتظار أن تستوي الصفقة، كان لا بدّ من حلّ مسألة الخصومة ووضع حدٍّ لمقاطعة قطر من أجل العبور بـ»البيت الخليجي» إلى «الوحدة» وبر الأمان. حتّى في هذه، يبدو الخرق الناجز، قاصراً على جمع «رباعي المقاطعة» على هدفٍ موحّد، في ظلّ تحفّظ تبديه الإمارات التي غاب وليّ عهدها، محمد بن زايد، عن القمّة، في مؤشِّر إلى عدم رضى أبو ظبي المشغولة بشهر عسلٍ بدأ للتوّ مع حليفتها الإسرائيلية.
تبدي الإمارات، التي غاب وليّ عهدها، محمد بن زايد، عن القمّة، تحفّظاً إزاء المصالحة مع قطر


طوَت «قِمة العُلا» مرحلةً عمرها ثلاث سنوات ونصف سنة من الصدع والخصومة بين قطر وجيرانها (السعودية والإمارات والبحرين ومعها مصر)، بمباركة مستشار الرئيس الأميركي وصهره، جاريد كوشنر، الذي حضر حفل المصالحة، متأبّطاً «إنجازات» تطبيعيّة ما لبثت تتراكم في ظلّ إدارة دونالد ترامب. قِمةٌ افتتحها وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، بتوجيه السهام مباشرةً إلى ثلاثي النووي والبالستي الإيرانيَّين وحضوره «المدمِّر» في المنطقة، والثناء، توازياً، على المصالحة المعقودة ووأد الخلاف الخليجي. وهي انفراجةٌ تُعدُّ الأحدث ضمن سلسلة «تفاهمات» رعتها واشنطن، بدءاً بدفع اتفاقات التطبيع مع إسرائيل قُدُماً بهدف بناء جبهة موحّدة في مواجهة الجمهورية الإسلامية، بينما تستعجل السعودية، على الجهة الأخرى، طيّ صفحة الخلاف مع قطر قبل تولّي الإدارة الأميركية الجديدة مهمّاتها. ووقّع قادة «مجلس دول التعاون الخليجي»، بحضور تميم بن حمد الذي مثّلت مخرجات القِمّة انتصاراً صريحاً لبلاده ولا سيما وأنها بقيت على موقفها إزاء الشروط التعجيزية التي حاول «الرباعي» فرضها، «بيان العلا» الذي قال ابن سلمان إنه يجيء «لتأكيد التضامن والاستقرار»، و»تعزيز أواصر الودّ والتآخي بين دولنا وشعوبنا، بما يخدم آمالها وتطلعاتها». لكن الرغبة في التغيير لدى الأمير الشاب مقرونة دائماً بالمكاسب المُراد تحصيلها من الحلف الخليجي المستجدّ، ولا سيما أنه لم ينتظر كثيراً قبل أن يقول: «نحن اليوم أحوج ما نكون إلى توحيد جهودنا للنهوض بمنطقتنا ومواجهة التحديات التي تحيط بنا، وخصوصاً التهديدات التي يمثّلها البرنامج النووي للنظام الإيراني وبرنامجه للصواريخ البالستية ومشاريعه التخريبية الهدّامة». كما واشنطن التي مارست ضغوطاً شديدة على الدول المتخاصمة لحلّ الأزمة، ترى الرياض في وحدة الخليج ضرورة لعزل إيران مع اقتراب ولاية ترامب من نهايتها، وفي انتظار ما سيترتّب على سياسات إدارة جو بايدن في المنطقة، وخصوصاً إزاء تعاملها مع الملف الإيراني.
أذِن «بيان العُلا»، بعودة العلاقات الكاملة بين الدول المقاطعة وقطر، بعد «طيّ كامل لنقاط الخلاف»، على حدّ تعبير وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، الذي لفت إلى أن الدول الموقّعة أكّدت «عدم المساس بسيادة أيٍّ منها أو تهديد أمنها، أو استهداف اللحمة الوطنية لشعوبها ونسيجها الاجتماعي بأيّ شكل من الأشكال، ووقوفها التام في مواجهة ما يخلّ بالأمن الوطني والإقليمي لأي منها، وتكاتفها في وجه أيّ تدخلات مباشرة أو غير مباشرة في الشؤون الداخلية لأيّ منها، وتعزيز التعاون لمكافحة الكيانات والتيارات والتنظيمات الإرهابية التي تمسّ أمنها وتستهدف استقرارها». وفي هذا إشارة واضحة إلى اتّباع الدول المتصالحة، وعلى رأسها قطر، سياسات تتوافق مع مصالح «أشقّائها». وفي هذا الإطار، علمت «الأخبار»، أن الاتفاق بين «الرباعي» والدوحة جاء على ذكر طريقة التعامل مع جماعة «الإخوان المسلمين»، ربطاً بتصنيفها إرهابية من قبل السعودية والإمارات، وشدّد على العمل لاحتواء حركة «حماس»، من دون أن يورد ما سلف في متن «بيان العُلا». من هنا، يمكن أن تُفهم الإشارة المتحفّظة لوزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، حين قال «(إننا) متفائلون بالعُلا ونحن واقعيّون»، داعياً إلى «تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه في القمة الخليجية». من جهته، رأى نائب رئيس الإمارات ورئيس الحكومة، محمد بن راشد آل مكتوم، الذي شارك في القمة بدلاً من وليّ العهد محمد بن زايد، في تغريدة، بعد انتهاء الاجتماع، أن «المتغيرات والتحديات المحيطة بنا تتطلّب قوة وتماسكاً وتعاوناً خليجياً حقيقياً وعمقاً عربياً مستقراً». وأصرّت الكويت وقطر، بحسب ما علمت «الأخبار»، على تغييب أيّ إشارة من أيّ نوعٍ كان لمسألة التطبيع، فيما بدت لافتة الإشارة، في البيان، إلى «تعزيز الدور الإقليمي والدولي للمجلس من خلال توحيد المواقف السياسية وتطوير الشراكات الاستراتيجية بين مجلس التعاون والدول والمجموعات والمنظمات الإقليمية والدولية بما يخدم المصالح المشتركة».