لم يسبقهم إليها أحد. مشهد «درامي - تراجيدي» بامتياز. ستُقرن بهم هذه الطريقة، لسنوات طويلة، من بين مختلف طرق الاعتصامات. قرابة العاشرة صباحاً، نزل يوسف الملّاح إلى البحر، ومعه رفاقه، كما وعدوا. سبحوا بعيداً. مرّ وقت قبل أن يغيبوا عن الأنظار.
نحو أربع ساعات في الماء، يسبحون بلا توقف، وعيون المتسمّرين عند شاطئ الرملة البيضاء، من رفاق وأهل ومتضامنين، تلاحق أثرهم المتضائل في الماء شيئاً فشيئاً. لم يعودوا إلى الشاطئ إلا بعدما وصلهم خبر إقرار اقتراح قانون تثبيتهم في الدفاع المدني. فعلها الملّاح ورفاقه، حصلوا على ما أرادوا، بغض النظر عن التعديلات الطفيفة التي طرأت على نص القانون.
بعد ساعة على نزولهم الماء، كانت سيّدة، تجلس وحيدة على كرسي فوق الرمال، تمسح دمعها عن خدّيها. اقترب منها بعض الأشخاص وسألوها من تكون.
كانت معركة وكان لا بد من استخدام كل «الأسلحة الشرعية»
إنها والدة محمد كجك، المتطوّع في الدفاع المدني، الذي ظلّت تراقبه في الماء قبل أن يختفي عن نظرها. رفاق ولدها أخبروها أن ابنها بخير، ولن يصيبه أي مكروه، ولكن... «أنا أمّ». ظلّت في الشمس إلى أن عاد ولدها، فاحتضنته، ببذلته المبللة، كمن غاب عنها لسنوات. قد يأخذ البعض على متطوعي الدفاع المدني إفراطهم في «العواطف». قد يُقال إن منسوب الشِّعر في تصريحاتهم كان زائداً عن حدّه. هم يعلمون ذلك، حتى الملّاح نفسه، الذي أطلق شرارة الاعتصام بدمعته قبل نحو أسبوع، ولكنها كانت معركة، وكان لا بد من استخدام كل «الأسلحة الشرعية».
صباح أمس، كانت العيون التي تنظر إلى البحر، تنظر أيضاً إلى مجلس النواب في وسط بيروت، حيث يُناقش قانون التثبيت. كل الحاضرين عند الشاطئ كانوا يتفاعلون مع كل خبر عاجل، آتٍ من ساحة النجمة. فتارة يصفّقون، وتارة يلوذون بالصمت. كانت قضيتهم موضوعة على جدول أعمال جلسة مجلس النواب، كبند رابع، وجاء الخبر أن الجلسة افتتحت. عندها نزل 15 متطوعاً إلى الماء. تصور البعض أن النوّاب، للظرف الراهن، سيرفعون قانون الدفاع المدني إلى البند الأول. تابع النواب مناقشة القضايا، بنحو طبيعي جداً، إلى حدّ استفزّ كثيرين ممن كانوا عند الشاطئ. كأن لا أحد في الماء رهن القرار الذي سيصدر عن المجلس. أكثر من ذلك، جاء دور البند الرابع، وجاء الخبر العاجل، لكن دقائق ويصل خبر آخر، يقول: «توقف البحث في مناقشة اقتراح القانون، بسبب عدم حضور وزير الداخلية نهاد المشنوق بعد، وذلك بناءً على طلب النائب جورج عدوان». هكذا، بدا المشنوق كمن يريد أن يوصل رسالة، مفادها: «أنا وزير داخلية قوي، صلب، لا يهمني حتى لو كان متطوعو الدفاع المدني في البحر... لست أنا من يهوّل عليّ». وصل المشنوق أخيراً، ووصل خبر وصوله، وتفاعل الشاطئ حراكاً ونقاشاً وتبادل آراء. عرفوا أن المشنوق، في الجلسة، أبدى ملاحظات قد توصل في النهاية إلى إسقاط اقتراح القانون أو تأجيل بتّه. صدح مكبر الصوت في الرملة البيضاء، ونادى به أحد المنظمين للاعتصام أسماء شبّان آخرين داعياً للانضمام إلى رفاقهم في البحر كدفعة ثانية. كانوا ينوون، لو طال الأمر، أن ينزلوا جميعهم إلى البحر. الذين نزلوا كانوا من مختلف الطوائف. أرادوا رمزية وطنية، وفعلاً، خلال الأيام الثلاثة الماضية كان بالإمكان سماع أكثر اللكنات اللبنانية في الاعتصام. خلال ساعات السباحة الأربع، حضرت بعض الشخصيات إلى الشاطئ للتضامن، ولكن لم يكن مفهوماً سبب حضور رئيس الاتحاد العمالي العام غصان غصن إلى هناك. «طرق» خطاباً بالحاضرين لم يُفهم منه شيء. أحد المتطوعين المتعصمين همس لرفاقه قائلاً: «هذا لديه وحده أموال تكفي لتثبيتنا جميعنا مع معاشات تقاعدية، والآن يأتي ليخطب بنا بعدما انتهى كل شيء».
أخيراً أقر القانون، مع تعديلات ربما كانت قد ظلمت بعض الذين طاولتهم، تحديداً من فئتي الأجراء والمتعاقدين. هؤلاء بحسب ما اتضح لن يكون لهم نصيب في التثبيت، ولكن سيُسمح لهم أن يبقوا في العمل. وهنا حاول النائب هادي حبيش أن «يُربح جميلة» لهؤلاء في السماح لهم بالاستمرار في العمل، لأنهم «إذا خضعوا للمباراة فإنهم سيرسبون»! كأن من أمضى 10 سنوات، مثلاً، في قيادة آلية الإطفاء، سيرسب لو امتحنه أحدهم بمعلومات عن كيفية قيادة الآلية! المسألة بديهية، ومع ذلك يخرج من ينظّر على العاملين في الدفاع المدني، على قاعدة أن لا منابر لهؤلاء حتى يعقدوا مؤتمرات صحافية، ولا خبرة لهم، وبالتالي لن يردوا أو يعلقوا. كان لافتاً أن النائب نواف الموسوي، للمرة الثانية بعد الجلسة الأولى، تصدى للوزير المشنوق عندما كان يتحدث عن سلبيات اقتراح القانون، داعياً إلى إقراره لأن «الوطن يحتاج إلى دفاع مدني يواجه بعديده الكوارث والتحديات».
ومن بين التعديلات، أيضاً، إلغاء المادة التاسعة من اقتراح القانون، التي كانت تنص على أن «يستفيد من هذا القانون، لجهة الحقوق التقاعدية والمنافع والخدمات، كل العناصر والموظفين الذين سرحوا من الخدمة لبلوغهم السن القانونية بعد صدور المرسوم رقم 4082 تاريخ 14/10/2000 وحتى صدور هذا القانون». حصل هذا بناءً على طلب الوزير المشنوق. لا يمكن القفز على بعض الهمس الذي كان يدور، أمس، على الشاطئ بين المعتصمين. منهم من تحدث عن أن المشنوق «لم يكن يعرف شيئاً عن القانون، وليس لديه غاية شخصية في رفضه أو طلب التعديل عليه، ولكن ثمة حسابات داخل مديرية الدفاع المدني، وهناك مناصب حالية ستتأثر بعد تثبيت المتطوعين، وهي لأشخاص محسوبين على جهات نافذة، وبالتالي وقفوا على خاطر هؤلاء».
هذه الكلمات، بجمل مختلفة، سُمعت من أكثر من معتصم خلال الأيام الثلاثة الماضية.
بعدما خرج يوسف الملّاح من البحر، أمس، وبعد سلسلة من التصريحات الشاعرية العاطفية التي أطلقها، أخذ عليه البعض المبالغة في «الكلمات الوطنية التقليدية». أجاب الملّاح عبر «الأخبار» قائلاً: «نعم هذا صحيح، ولكن ما الذي كان ليرضي جميع الناس؟ لو أقفلنا الطرقات لقالوا: هؤلاء مشاغبون. لو أحرقنا الإطارات، لقالوا: هؤلاء مشاغبون. الكلمات التي تحدثت بها منذ البداية كانت من قلبي، ببساطة والله وبعفوية، وكنت أستهدف الناس وقلوبهم، لأن المسؤولين ربما ما عاد يؤثر بهم شيئاً، والحمد لله استطعنا أن نوصل قضيتنا المحقة ومظلوميتنا إلى عواطف المواطنين ووجدانهم. كنا سلميين وقد أعطينا نموذجاً جديداً في التحرّك المطلبي». كثيرون سيذكرون الملّاح طويلاً، الذي «بايعه» المتطوعون، الذين سيصبحون موظفين ثابتين، رمزاً لهم. سيحفظون له ما فعله لأجلهم. أحدهم اقترح أمس قبل عودة المتعصمين من البحر، أن يقام تمثال رمزي للملّاح، ويكون ثمنه من أول راتب يقبضه هؤلاء بعد تثبيتهم.

يمكنكم متابعة محمد نزال عبر تويتر | @Nazzal_Mohammad