أزعج آمر مفرزة الضاحية القضائية الرائد علي جفّال قيادة المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي على خلفية التحقيقات التي تولّاها في قضايا المصرف المركزي، وآخرها الاشتباه في سرقة الدولارات المخصصة لاستيراد السلع «المدعومة» وتواطؤ صرّافين للتلاعب بقيمة العملة الوطنية. هذا الضابط هو نفسه الذي فتح ملف مصرف لبنان وتسبب بتوقيف مدير العمليات النقدية فيه مازن حمدان بشبهة تهريب دولارات وتهديد سلامة النقد الوطني. كما تسبب بتوقيف مدير العمليات النقدية في مصرف SGBL كريم خوري للاشتباه في مشاركته بتهريب دولارات الى خارج لبنان. كذلك وقف جفّال خلف فتح ملف الصرّافين واستدعاء نحو ٣٠ شركة صيرفة للتحقيق. وكانت القاضية غادة عون المشرفة على تحقيقاته، وادعت على المشتبه فيهم في كلّ مرة.الباب الذي طرقه جفال كان مُحرّماً طرقه. أحرج ذلك قيادة المديرية أمام حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، فضيّقت على الضابط المزعج حتى صدرت مذكرة قبل يومين خصّيصاً لتقييده. قرر المدير العام لقوى الأمن الداخلي، اللواء عماد عثمان، في المذكرة، منع جفال من المشاركة في التحقيقات، عبر هرطقة قانونية ابتدعها بعنوان «عدم الازدواجية في تنفيذ إجراءات التحقيق». منع عثمان الضباط والرتباء من المشاركة في التحقيقات مع المدّعين العامين. قالها علانية: «إما يُجري القضاة التحقيق، أو نُجريه نحن»، ولسان حاله يقول: «لسنا كتبة لأحد». قالها بطريقة منمّقة قليلاً. تناسى عثمان أن الضابطة العدلية دورها الأساسي معاونة القاضي في التحقيق ولو استلزم ذلك أن يحمل ملفات التحقيق أو يكتب ما ينصه عليه القاضي.
أصدر المدير العام مذكرة إلى ضبّاط المديرية مفصّلة على قياس الرائد جفّال. كان ينقصه أن يذكر اسم الضابط الذي تسبب بإزعاج كبير. وطلب عثمان من قادة الوحدات إبلاغ الضباط ورتباء التحقيق «عدم تنفيذ إجراءات التحقيق في الدوائر العدلية أو القيام بصفة كتبة للتحقيق لدى النيابات العامة». وطلب من الضباط ورتباء التحقيق الإجابة عن استفسارات النيابة العامة عن التحقيقات التي تجرى بإشرافها، سامحاً في هذه الحالة، إن اقتضت الضرورة، بالحضور لدى النائب أو المحامي العام، لتوضيح مجريات التحقيق. انتقد عثمان ما سمّاه «قيام بعض الضباط بالانتقال إلى مكتب النائب العام الاستئنافي لتنفيذ إجراءات التحقيق المكلّفين به، ولا سيما الاستماع إلى إفادات الأشخاص، في حين تُستكمل باقي الإجراءات في مراكزهم». وانطلق من مواد القانون الرقم ٣٢٨ (قانون أصول المحاكمات الجزائية) المتعلقة بصلاحيات النيابة العامة، مشيراً إلى أنّ «أولاها القيام بالتحقيق الأولي في الجرائم المشهودة وغير المشهودة، على أن تتولى هذا التحقيق الضابطة العدلية عندما يتعذّر على النيابة العامة مباشرته بنفسها، شرط أن يراعي الضابط العدلي في إجراءاته الأصول التي حددها القانون للنائب العام». وقال عثمان إنّه «مراعاة لمصلحة الخدمة، ومنعاً للازدواجية في تنفيذ إجراءات التحقيق»، رأى أنه «يجب أن يقوم بالتحقيق إما النيابة العامة وإما الضابطة العدلية».
قبل ذلك بأيام، وبالتزامن مع قرار غادة عون استدعاء حاكم المصرف المركزي، تناقل ضباط في المديرية أنّ قائد الشرطة القضائية العميد ماهر الحلبي طلب من الرائد جفّال أخذ إجازة مفتوحة. كان ذلك طلباً مباشراً بابتعاده، بطريقة منمّقة، عن التحقيق في ملف الاشتباه بسرقة دولارات السلع «المدعومة». غير أنّ ضباطاً آخرين نقلوا عن جفّال أنّه أخذ الإجازة بملء إرادته بسبب «القرف من التعامل مع التحقيقات التي يُجريها والتي تُغلَق بقدرة قادر».
يوم أول من أمس، حضر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى التحقيق أمام القاضية عون في ملف الهدر الحاصل في الدولار المدعوم. طلبت القاضية حضور الرائد جفّال لمعاونتها في استجواب سلامة، لكونه تولى التحقيقات الميدانية. لكنّ الضابط أبلغها أنّه لا يمكنه ذلك التزاماً بتعليمات رؤسائه. تزامن ذلك مع إصدار بيان عقوبة بحق الرائد، بسبب تلاسن بينه وبين رئيسه العميد حسين صالح، على خلفية تسطير جفال ضبط مخالفة بحق سائق سيارة «أوصى» بها صالح. هنا، اتهمت المديرية جفال بالتوجه إلى مكتب القاضية عون، حاملاً برقية المدير العام وبيان العقوبة، ليبلغها بأنّه يُعاقب لكونه يشارك معها في التحقيقات. غير أن مصادر قضائية تنفي أن يكون جفال قد اشتكى لدى عون من رؤسائه. وتكشف مصادر القاضية عون أنّ العميد حسين صالح اتصل بها، طالباً منها نقل ملف دولارات الدعم من مفرزة الضاحية القضائية إلى مكتب الجرائم المالية، لكنها رفضت مستنكرةً تدخّله في ما لا يعنيه.
الاقتصاص من ضابط تجرّأ على فتح ملفّ المصارف والصرّافين


وأرسلت عون استنابة خطية تطلب فيها من جفال الحضور إلى مكتبها لمعاونتها في التحقيق مع سلامة، إلا أن الرائد ردّ بأنه تبلغ أمراً من رؤسائه بعدم معاونتها. فأبلغته أنها رئيسته في التحقيق، بموجب قانون أصول المحاكمات الجزائية. عندها اتصلت عون بالعميد صالح لتطلب إليه إرسال الضابط لمعاونتها في التحقيق، فأبلغها الرفض بأمر من اللواء عثمان. فقالت له عون: «أنتم تخالفون القانون. هل أنتم ميليشيا أم ضابطة عدلية؟». حصل تلاسن وأكد صالح أن الرائد جفال لن يذهب إلى مكتبها. هكذا اعتبرت عون أنّ هذا رفض تنفيذ قرار قضائي وهذا جرم مشهود وتطاول على مدّعٍ عام، فادّعت على صالح وعثمان معاً أمام قاضي التحقيق الأول في بعبدا، نقولا منصور، بجرم الإخلال بالواجب الوظيفي.
خرج خبر الادعاء إلى العلن. وتسبّب ذلك باستدعاء الرائد جفّال على عجل إلى التحقيق لدى فرع المعلومات، بأمر من عثمان. ترافق ذلك مع معلومات عن توجّه لدى اللواء عثمان لإطاحة الرائد جفّال من مركزه ونقله إلى مركز آخر بموجب برقية يجري إعدادها.
يُجمع ضباط المديرية، بمن فيهم قيادتها، على أنّ الرائد جفّال من أنزه الضباط في قوى الأمن. لا يشكّك اثنان بانضباطه وصدقه والتزامه بالقانون، إلا أنّهم يأخذون عليه صرامته وحدّته في تطبيق القانون و«مثاليته الزائدة»، لكن الواضح أنّ اللواء عثمان قرر أن يجعل من جفّال عبرة لزملائه. ففي قاموس المدير العام لقوى الأمن الداخلي ثمّة محرّمتان: الالتزام بالقانون والمسّ بمصالح الطبقة التي تعهّد بحمايتها، وأبرز رموزها حاكم المصرف رياض سلامة وأصحاب المصارف والصرافين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا